المصرى اليوم
أحمد الدرينى
مئذنة الناجي الأخيرة.. لوثتي ولوثتك
يبني جلال الناجي في ملحمة الحرافيش مئذنة ضخمة.. عشرة طوابق كاملة وسط خرابة.. مئذنة بلا مسجد.. بلا هدف يذكر أو غاية تدرك.

يترك نجيب محفوظ المئذنة كرمز لخبال آل الناجي ولوثتهم المتوارثة.. يمر الناس جوارها مسكونين بالعجب والاستنكار من مظهرها، وأحيانًا بالخوف من غرضها الذي لا يعرفه أحد.

من هم آل الناجي الذين اختار محفوظ أن يستدرجنا بالحكي وسط أجيالهم المتعاقبة من الفتوات والتجار والأثرياء والقتلة والخونة والصالحين؟

تارة سيبدو أنهم بنو آدم باختلاف طبائعهم ونوازعهم.. وما بقية سكان الحارة سوى كومبارس أو تنويعة أخرى على بني البشر غير أن الكاتب اختار أن يستعرض الرحلة الأرضية على ضوء حقيقتي «الحياة» و«الموت» في آل الناجي.

عاشور الناجي الجد المؤسس لهذه السلالة.. لقيط.

سيبدو أحيانا كآدم أبي البشر..

خاصة وقد عاش في جنة/ قصر مع أبنائه الجدد بعدما اجتاح الطاعون القاهرة ونهش أبناءه من زوجته الأولى، وبدد بيته الأول رمادا تذروه الرياح.. ثم طُرد من هذه الجنة بالقوة.

الرجل الذي بذر بذرة الذرية المختارة للحكاية والنظر.

تشتمه الحارة أحيانا ويشتمه أحفاده أيضًا.. في لحظات بعينها يراه البعض لصا ومخبولا.. لقيطًا تزوج من داعرة فأنجب ذرية ملعونة.

وفي لحظات بعينها يبدو وليا من أولياء الله الصالحين حين اختفى اختفاءته الملغزة بعدما أقام العدل في الحارة ومضى في عهده على ما يرضي الله.

وحين تصيب المصائب ذرية الناجي.. ينقسم الناس في تشخيصهم لأسباب المصيبة.

فتارة لأنهم حادوا عن درب جدهم الفتوة العادل والولي العظيم.

وتارة لأنهم ذرية داعرة من رجل لص تزوج فتاة البوظة سيئة السمعة.

وتارة ثالثة سيظل لدى البعض اعتقاد بأن عاشور الناجي سيعود من غيبته ليملأ الأرض عدلا.. كأنه المهدي المنتظر الذي سينهي الحكاية التي بدأت بوجوده هو.

فيما يعتقد بعض أحفاده أن عاشور يراقبهم.. ويلومه البعض أنه لا يتدخل لمنع الظلم فيما بينهم البين، فيما يشبه اللوم الذي يجول بصدر البشر.. حانقين أو لائمين لرب الكون عز وجل، مرددين السؤال الأشهر: لماذا لم تتدخل؟

عاشور أحيانا هو آدم أصل الخطيئة والوجود.. وأحيانا نوح الذي من ركب سفينته نجا ومن تخلف عنها غرق.. وأحيانا كأنه الله الذي ننتظر أن يحق الحق ويبطل الباطل.. ويطل من غيبته التي لا نعرف كنهها.

لا يحسم محفوظ موقفًا تجاه عاشور الذي تقاس ذريته على مسطرته.. بمقدار ما اقتربوا منه ومقدار ما ابتعدوا عنه.

بل سيترك لنا سيرته على مدار أجيال وهي تأخذ أوجها عدة وحين يقرأها الناس بزوايا مختلفة، كأنما يستعرض لنا كيف تكون الرواية الأولى وكيف يتكفل التاريخ بصبغها بكل صبغة ممكنة.. وكيف يكون استنطاقها قابلا لأن يكون في كل الاتجاهات.

هكذا روى البشر تاريخهم!

الولاية والدعارة وجهان.. مرحلتان.. تجليان على مدار الرحلة.. حقيقتان منسوجتان في مسيرة الناجي على نحو لا تستبين معه هل جاءت الولاية من ظهر الدعارة أم أن الدعارة لربما تتحول إلى الولاية، أم أن كلتيهما احتمالٌ قائم فينا ونحن من نختار..

نحن البشر في تقييمنا لعاشور وذريته، التي هي نحن بصورة أو بأخرى، نغلب أحد الاحتمالين على الآخر، بانحياز فاجر أو بعاطفة غالبة، لا عن إدراك أو إمكانية للجمع بين النقيضين في وعينا بالأشياء.

تبلغ الدراما ذروتها مع جلال الناجي، الحفيد السادس لعاشور، والذي سيجمع العناصر الثلاثة التي لم تتأت أبدًا لأي من أفراد الذرية.

الفتونة والثراء والجمال

سيصاب بجنون عظمة طاغ.. سيحتقر الآخرين.. وينصحه دجال ببناء المئذنة الملغزة كقربان ضمن قرابين يقدمها للجن كي ينال الخلود.

تصبح المئذنة في نظر الأجيال اللاحقة من آل الناجي ومن سكان الحارة رمزًا للخراب والجنون في أقصى تجلياته في ذرية عاشور.

حتى نحن لا ندري ما الذي يروق الجن في مئذنة بلا مسجد تقف وسط خرابة؟

هل هو مشروع الإيمان الذي لا يكتمل فيصبح أقرب للازدراء والكفر؟ أم هو الإقدام على تحيير الناس وإثارتهم وتفريق آرائهم فيما لا طائل من ورائه؟

أم هي ابتكار من الدجال الأفاق يوافق نزق الناجي جلال وقدرته المالية الهائلة وجبروته اللانهائي على الإقدام على أي شيء مهما كان.. دون الاكتراث لرأي الناس الذين طالما احتقرهم؟

تمضي الرواية بين هواجس القوة والضعف.. الجمال والدمامة.. الثراء والفقر.. الحضور والغياب.. الخيانة والوفاء.. وتظل المئذنة في مشهد بنائها ثم في مشاهد اختلاف الأجيال عليها كدفقة كهربية في أعصاب القارئ.

تدغدغه أحيانًا وتصعقه أحيانا..

يموت المتغطرس جلال الناجي عريانًا مسمومًا وسط علف الحيوانات وروثهم.. جزاء وفاقا على خطيئة الكبر.

وتبدو المئذنة لي كما لو كانت شاهد الخراب العقلي الذي لكل منا نسخة منها في حياته.

لكل منا مئذنته التي تجعله في نظر الآخرين مخبولًا.. بما فعل أو بما فوت.

ويظل السؤال ملحًا: إذا كان الاقتراب من عاشور وسيرته مهلكًا والابتعاد عنه مهلكًا، بل في أن تكون أنت عاشور نفسه.. الهلكة البينة.

فماذا نحن فاعلون، والخواء وراؤنا والمئذنة عن أيماننا وشمائلنا تزيد الرؤية ضبابًا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف