د. رائد العزاوى
القدس.. إنسانية الروح.. عربية الأصل
إن الإدارة الأمريكية كانت تعتقد أن رد الفعل العربى لن يكون بمستوى الحدث، لكن الإدارة الأمريكية فوجئت بموقف الشارع العربى والإنسانى والإسلامى، وأيضًا الموقف الشجاع لمصر فى إدارة الصراع مع قرار ترامب بحرفية دبلوماسية عالية الدقة والذكاء.
وبعيدًا عن مزايدات بعض الدول والأشخاص والخطابات العنترية، التى خرجت من هنا أو هناك أو فى القمة الإسلامية، فإن موقف الرأى العام العربى والإنسانى والإسلامى كان يقلق الإدارة الأمريكية بكل أركانها، وهو أمر اتضح بشكل واضح من خلال الخطاب الدبلوماسى الأمريكى الهادئ ومحاولات امتصاص الغضب الدولى وخصوصًا الأوروبى الذى كان فى بعض الأوقات أقوى قليلًا من الموقف الرسمى العربى، باستثناء الموقف المصرى الهادئ والمتزن فى مخرجات الحل لكرة النار التى دحرجها ترامب نحو المنطقة الملتهبة أصلًا، وهذه الكرة أحرقت كل شىء.
عندما قررت مصر وبدعم عربى كبير، أن توقف حركة كرة النار، عبر استخدام سلاح الدبلوماسية باتجاه تشكيل تحالف دبلوماسى عربى، استطاع أن يدفع عددًا من أعضاء مجلس الأمن الدولى، منهم أعضاء دائمون مثل فرنسا وبريطانيا، وغير دائمين مثل إيطاليا والسويد وبوليفيا والسنغال وأوروجواى، إلى إصدار بيان مشترك طلبت هذه الدول عقد جلسة لمجلس الأمن «حول القدس». فقد اعتمدت مصر على المادتين ٣٤ و٣٥ من ميثاق مجلس الأمن الدولى، اللتين تنصان على «أن هناك تهديدًا للسلم والأمن والسعى لتسوية سلمية للنزاعات السياسية».
بلا أدنى شك، كنا نعرف أن القرار الذى أعد بصياغة غاية فى الدقة، ودون التعرض لقرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية للقدس، سيواجه بفيتو أمريكى مع عقبات أخرى، لكن مصر قادت دول العالم فى هذه المعركة لصالح الانتصار لقضية القدس، ويكفى أن نرى المندوبة الأمريكية فى الأمم المتحدة وهى تتحدث بمزاج عصبى جدًا، ملفقة جملة من الأكاذيب حول القدس، ويكفينا، ونحن نستمع لخطابها، وهى ترجو دول العالم لرفع الظلم عن الإسرائيليين!.
ومع قراءة لمشروع القرار المصرى، نستطيع القول إن من كتبه يعرف جيدًا كيف ينقل كرة النار إلى حِجر «بكسر الحاء» ترامب وإدارته. ففقرات القرار الست تتحدث، وفق مبادئ شُكل على أساسها مجلس الأمن، فالمفاوضات هى أساس لحل الخلافات بين الدول، وأن أى قرار أو عمل، يبدو وكأنه يغير طابع أو وضع أو التركيبة الديموغرافية «للقدس»، ليس له أى مفعول قانونى، وهو باطل ويجب إلغاؤه بموجب قرارات الأمم المتحدة وهو أمر غير مقبول، ويناقض ميثاق الأمم المتحدة، كما أن مسودة القرار أشارت إلى أهمية القدس للإنسانية، وهى- أى المدينة - لا يمكن أن تكون محل مساومة على ثوابت التاريخ والجغرافيا، وأن أى قرار أحادى الجانب هو أمر مؤسف دون الإشارة تحديدًا إلى خطوة ترامب.
لكن القرار لم يمر. فأمريكا استخدمت حق النقض، وهنا فإن الانتقال إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة يعطى للقرار زخمًا كبيرًا، إذا ما تم التصويت عليه، وهو أمر متوقع. فإلى الآن هناك أكثر من ١٣٠ دولة ستصوت لصالح القرار، وإن كان سيوضع إلى جانب أشقائه من القرارات السابقة، لكن هذا سيعطى الفرصة للسلطة الفلسطينية إلى التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية، وبلا أدنى شك فإن المحكمة ومع كميات هائلة من الوثائق والأدلة القانونية، ومجمل جرائم الاحتلال الإسرئيلى للقدس، ستصدر قرارًا ببطلان أى إجراءات تتم على أرض القدس.
مازلت أرى أن أمامنا معركة طويلة مع قرار ترامب، ولن تنتهى فى أروقة الأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية الدولية، إن المعركة يجب أن تكون باستخدام أدوات أكثر وعيًا لأهمية القدس عربيًا وعالميًا، نحتاج إلى أقلام واعية للقضية، أقلام صادقة فى دفاعها عن القضية، فالقدس تستحق منا جميعًا الكثير، لأنها ليست ملكنا نحن العرب وحسب، بل هى ملك لكل ما هو خير فى الإنسانية. اعملوا بصدق، فإن ضاعت القدس فاحثوا التراب على رءوسكم، وكفوا عن الشعارات، فالقدس لن تعود إلا بصدق العمل، والعمل بصمت، كما تفعل مصر والخيّرون معها وهم كُثر.. عاشت القدس عربية الوجه.. إنسانية الرّوح.