الأخبار
جمال فهمى
من دفتر الأحوال - حكايات من زماني.. «بيوت الموتي»
مازلت أذكر تلك اللحظة الرائعة التي فزت فيها بكامل مجموعة الترجمة العربية لأعمال أديب روسيا العملاق فيودور دستويفسكي (1821ـ 1881)، هذه المجموعة الهائلة كانت آلة النشر العملاقة للدولة المصرية قد طبعتها وأصدرتها في العام 1966، وفاز العبد لله بها في مطلع ثمانينات القرن الماضي.
لا أستطيع وصف شعور الفرح الذي غمرني آنذاك باقتنائي هذه المجموعة، ليس فقط لأنها من أثمن منتجات الأدب الحديث، وإنما أيضا لأنها من أبرز مكونات الكنز الإبداعي لمن نقلها إلي العربية الدكتور سامي الدروبي، هذا المثقف العربي العظيم كان يعشق مصر، وبعد تقويض الوحدة المصرية السورية تم تعيينه سفيرا لسوريا في مصر عندئذ وقف أمام الزعيم جمال عبد الناصر، قائلا له وهو يبكي بحرقة : أقبلني ياسيادة الرئيس سفيرا لبلادي في بلادي.
لسبب لست أعرفه فإن رحلة الاستمتاع بقراءة الترجمة المدهشة الراقية لمجموعة ديستوفسكي، بدأت بكتاب لا يتمتع بشهرة وشيوع باقي أعمال هذا الأخير، وإنما بنص رائع يحمل عنوان »ذكريات من بيت الأموات»‬، ثم بعد ذلك بسنوات عرفت أن لهذا الكتاب الفذ أثراً وحكاية تعود إلي ما يزيد قليلا عن القرن ونصف القرن (تحديدا يوم 17 أبريل عام 1863) حين صدر في روسيا القيصرية قانون ألغي بعض أشد العقوبات قسوة ضمن قائمة التنكيل التي كانت متبعة آنذاك ومستخدمة علي نطاق واسع في السجون الروسية عموما، وخصوصا في مراكز ومعسكرات الاعتقال الشهيرة في منطقة سيبيريا ذات الطقس الثلجي.
القانون الروسي ذاك صدر في ذروة ضجة عارمة قادها وقتها أمير يدعي نيقولاي أورلوف، ورغم أن هذا الرجل لم يكن تقدميا في آرائه ومواقفه السياسية لكنه كان شغوفا جدا بقراءة الأدب، لهذا ولحسن الحظ، فقد وقع بين يديه كتاب »‬ذكريات من بيت الأموات» حاملا توقيع أديب سيصبح بعد ذلك واحداً من أهم أعلام الأدب الروسي والعالمي الحديث.
قرأ الأمير الجنرال كتاب »‬بيت الأموات» فإذا به يستبشع ويأنف بشدة من أساليب العقاب التي سجلها دستويفسكي في الكتاب، ومن ثم راح يكتب للقيصر ويقود حملة ضخمة تطالب بإلغاء هذه الأساليب الوحشية، انتهت بصدور التشريع آنف الذكر.
ما سجله الأديب العظيم في الكتاب، كان شهادته علي ما عايشه هو نفسه بعدما صدر ضده حكم بالإعدام في قضية سياسية، ثم خففت العقوبة إلي السجن أربع سنوات أمضاها دستويفسكي وهو يكتب ويدون ما كان يكابده هو وزملاؤه من أهوال وفظائع في المعتقل.
إذن »‬ذكريات من بيت الأموات» ليس رواية من نسج الخيال، وإنما هو نص مكتوب بصيغة روائي يحكي تفاصيل حياته اليومية في السجن، كما يرسم بحذق ومهارة صورة شاملة لحياة رفاقه المحشورين معه في هذه المحنة الرهيبة مستعرضا آيات القسوة والبؤس الضاغطة علي كينونتهم البشرية وتأثير ذلك علي علاقاتهم ببعضهم البعض، وكذلك نسيج حياتهم قبل الاعتقال.. غير أنه وهو يتجول في وسط كل هذا الخضم الهائل من التفاصيل، لا يفوته أن يغوص في عمق نفسيات المساجين معه ملتقطا من دواخلهم فضائل وشمائل إنسانية أصيلة وصادقة، ربما تبدو غائبة ومخفية تماما تحت قشرة الجلافة والخشونة التي طبعت سلوكهم بسبب طول الاعتياد علي حياة البؤس والجريمة.
يقول دستويفسكي بعد سنين طويلة من صدور كتابه »‬بيت الأموات»: إنه »‬برغم المعاناة الجسدية والنفسية التي عانيتها في سنوات السجن، لكني أعترف بأنها كانت أيضا فرصة ثمينة لكي أتسلل إلي أعماق الشخصيات التي كانت معي خلف القضبان، وعبر هؤلاء أظنني لمست دواخل السيكولوجية السائدة في المجتمع الروسي كله». وفي موضع آخر قال: »‬لقد عشت أربع سنوات وسط جمع من البشر يُنظر إليهم باعتبارهم حثالة الحثالة، غير أنني توصلت إلي استنتاج خطير خلاصته، أن بعض خير الناس وأطيبهم قد يقسو قلبه ويصبح حيوانا كاسرا، تحت ضغط الظروف السيئة».. ثم أشار إلي تجربته مع الحراس والجلادين الذين احتك بهم وعايشهم، قائلا: »‬إن اعتياد التسلط والدم يسكران ويولدان التوحش والشذوذ والفساد».
باختصار، لقد استفاد العبقري دستويفسكي من سنوات السجن الكئيبة المرة، وراكم خلالها في عقله ومخيلته ثروة ضخمة من النماذج والشخصيات الإنسانية التي استثمرها فيما بعد ورصع بها أروع إبداعاته الروائية.
وبعد.. لا أستطيع عزيزي القارئ، أن أختم من دون أن أنبهك بأن هذه السطور ليست أبدا ترويجا ومدحا في السجون والمعتقلات، فهي ـ وعن تجربة ـ واحدة من أسوأ وأبشع اختراعات البشر.. إنها فعلا »‬بيوت أموات» لكنهم يتنفسون.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف