المصريون
د. حسام عقل
ترامب.. ليلة انتهاك العذرية!
حالة من السعادة النسبية (لا بد أن تكون السعادة في هذه الأجواء نسبية!)، والبهجة النادرة في عالمنا العربي الغارق حتى الآذان في الأزمات الكابوسية الرهيبة، وقد سادت الحالة كالكهرباء التي تسري في الأسلاك، ليلة أمس عقب تصويت الأمم المتحدة _ بأغلبية ساحقة _ على رفض أي مساس بوضعية القدس القانونية والمكانية (مائة وثمانية وعشرون صوتًا) . وطالت عملية التصويت أنف الإدارة الأمريكية، التي تمرغت في الوحل، وانخدش نفوذها بقوة كما لم ينخدش منذ فترة طويلة، وانفض عنها حلفاؤها التقليديون تباعًا، فبدت في أروقة المنظمة الدولية كالأجرب بين الأصحاء، مكانه الطبيعي هو "الحجر الصحي"! حاولت المندوبة الأمريكية أن تلوح مهددة بورقة المعونات الاقتصادية للمنظمة نفسها، وللدول المصوتة على السواء، فبدا منطقها إجراميًا بامتياز، لم يخفه مطلقًا ماكياج المندوبة المتعجرفة ولا أطنان الأصباغ والمساناحيق، حيث انكشفت دمامة المنطق والسياسة المتبجحة، والانحيازات الموغلة في السفالة! جاءت لحظة الأمل في واحدة من أشد لحظات الإحباط العربي والإسلامي سوادًا.
وقد تواصلت مع معظم الأصدقاء المفكرين والمبدعين الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني والعالم العربي عمومًا عقب التصويت (التاريخي)، فكانت نبرة الثقة والتفاؤل تطبع كل الأصوات: "محمد هيبي" و"كفاح عواد" و"ماهر الطردة" و"ناريمان شقورة" و"حسن مشعل" و"سمير الأحمدي".. وغيرهم من الأصدقاء الفلسطينيين الأدباء والمفكرين، الذين سررت بالتأكيد لسرورهم بانتزاع هذا النصر الأدبي والمعنوي المهم، برغم إدراكنا جميعًا لوعورة الطريق المستقبلي القادم وصعوباته المؤكدة، مع مرحلة استعمارية، قائمة على سن السلاح، ووقاحة التبجح وكشف الوجه الإمبريالي دون رتوش أو تجمل.
بالجملة كان لا بد أن يفتضح هذا الوغد "المتأصل" "دونالد ترامب" (1946 _ ..) الذي جاء من الأقبية والغرف السفلية لعالم المال والاقتصاد وأثار دهشة الجميع وسؤالهم: "كيف انتخب الأمريكيون هذا المسخ؟ وكيف دفعوا بهذا الملتاث الكبير إلى البيت الأبيض ليضعوا أصابع المجنون على الزناد في تهديد مؤكد لرقاب الجميع؟! وهل كان انتخاب (المسخ) الرئيس الخامس والأربعين لأمريكا، لحظة تصويت أم لحظة جنون أمريكي استجاب بشكل مخجل لحماقة المد اليميني المتطرف وأحلامه الدامية، وخطابه الشعبوي الغوغائي المراوغ؟


فلم ير "ترامب" في العالم أكثر من بورصة كبيرة يمكن شراؤها _ ذممًا وضمائر _ بالدولارات الخضراء، ويبدوأن جنونه قد تضاعف عقب غزوته الخليجية الأحدث، التي قام فيها بتركيع الزعامات العربية عمومًا، وخرج مباهيًا وفي جواله الخاوي نصف تريليون دولار، إتاوة غير مستحقة، قدمتها له الأيدي العربية المرتعشة المرعوبة من ظلها، فأعطته فوق ما كان يأمل، وغذت داخله "غطرسة القوة" _ كما أسماها السناتور "وليم فولبرايت" _ فوثق الرئيس / المسخ بسلامة طريقه وسياسته ووجهته، وأغراه الجنون السادي بكسر عظم العرب بشكل نهائي، فوقع قرار القدس ليمنحها هدية للكيان المغتصب، ولوح بالورقة أمام الكاميرات ليمعن في الإذلال وخطاب التركيع؟!
هل كان "ترامب"، في خطابه المتلعثم الشهير، الذي استغرق، برغم خطورته، إحدى عشرة دقيقة، وأعلن فيه "منح القدس" كاملة للربيبة المدللة دائمًا، أقول هل كان "ترامب" _ بغريزة رأس المال الجبان الذي يتحسب للأخطار المحتملة _ يعرف أن انفجار اللغم _ بعد حين _ قد لا يأتي برياحه في صالح سفنه، وأن السحر يمكن أن ينقلب على الساحر، ويكتل ضده الغاضبين (الفرقاء)، ليصبحوا بعناده وعجرفته (غير السياسية) (رفقاء) ضده ولو رغمًا عنهم ؟! تساءلت الممثلة الأمريكية "ميا فارو" ببراءة: (? why is Trump slurring his speech) " لماذا يتلعثم ترامب هكذا؟ "والإجابة فيما أرى" هو شيء من الخوف الطبيعي لخطورة الخطوة المنفردة، وإنهائها لأعوام طويلة من (السياسة) التي تمثلت في أوهام " أوسلو"، في مقابل اللجوء لأسلوب لي الذراع العلني، وتركيع الطرف العربي تمامًا لركبتيه، وهي خطوة موغلة القسوة يمكن أن تستفز أخلص الأصدقاء، فضلًا عن المحايدين!
كان أبلغ ما في ليلة التصويت، زهوة الحضور الإسلامي المتجمع، المتكتل وحيويته وثقته، بعد أن ظننا به الموت، فضلًا عن انتفاضة أحرار العالم ويقظتهم النشطة المتحدية دون توازنات أو ظل مجاملة دبلوماسية، وكان المشهد الأكثر بلاغة، هو حالة "الانفضاض الكامل" عن "واشنطن"، بصورة غير متوقعة، بما سوغ لأحد النشطاء على "فيسبوك" أن يكتب عن (ليلة الأمس) بشقاوة فيسبوكية معتادة: "ليلة البصق الجماعي على ترامب"! وبما منح المشهد معنى الهزيمة السياسية الكاملة لـ"واشنطن".
لم يفهم تاجر العقارات والمنتجعات "ترامب" تحولات المجتمع الدولي وتوازناته الجديدة، وهو ما عبر عنه المفكر الكبير " ألفين توفلر " ب " اضمحلال الإمبراطوريات _ بدءًا من عام 1989 _ في كتابه الأشهر: "تحول السلطة"، بل إن "توفلر"، في الكتاب نفسه، حذر "واشنطن" من الانحسار التدريجي الخطير في "نفوذها الدولي"، مؤكدًا بوضوح أن هنالك ثلاثة مفاهيم لـ "السلطة" أحدها يعتمد على "فوهة البندقية" (مهوم ماوتسي تونج)، والآخر يعتمد على مبدأ: "النقود تتكلم " (مفهوم ترامب)، بينما المفهوم الأحدث هو "السلطة هي المعرفة" (مفهوم فرانسيس بيكون المعاد طرحه الآن) إن حركة احتكارات المعرفة والوعي الجديد المتشكل في مناطق النفوذ الجديدة، بل انكسارات الاحتكارات وبزوغ مفاهيم العمل الجماعي التقني الملهم، كل هذه المفاهيم كانت صفعة بالغة القسوة لمعسكر ترامب المهزوم . وقد كان رد مندوب " فنزويلا " على عجرفة المندوبة الأمريكية، في أذني أكثر جمالًا من كل سيمفونيات "باخ" أو "هندل"، عندما قال بحسم دون ارتعاش: "العالم ليس للبيع! " فأثبت لنا ولكل الأحرار أن هناك بالتأكيد أملًا.
لتكن هذه الليلة جذوة جديدة، لكل المحبطين والمحاصرين والأحرار العرب، بأن العطية، التي جاءت في وقتها، بمكن أن يتلوها مزيد من عطايا السماء، للمرابطين ومناضلي الكلمة والميدان في العالم العربي كله ،وهم الذين أوشك ثقل الوضع الراهن وعدميته وقسوته وخواؤه من أي معنى أن يدفع بهم إلى قاع اليأس التام أو الانتحار البطيء، نعم تولد "الأمل" بالأمس في ليلة البصق التاريخي على صاحب الأبراج العالية "ترامب"، أسوأ وجه أمريكي عرفه العالم!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف