جمال سلطان
لماذا يفقد المصريون الثقة في المستقبل ؟
السؤال الذي تسهل إجابته الآن في مصر هو : هل يشعر الناس بالثقة في المستقبل أم يشعرون بالخوف والقلق ، هل يعتقدون أن القادم أفضل أم يتوقعون أن القادم أسوأ ؟ ، لا تخلو كلمة من كلمات الرئيس عبد الفتاح السيسي من التفاؤل بالمستقبل ، والتأكيد على أن البلد ستكون دائما عظيمة ، وهناك خطط وتحضيرات وإنجازات هائلة ستغير وجه الحياة ، فقط اصبروا بعض الوقت ، وكلما صبرنا أكثر كانت النتائج أفضل ، ومع كل هذه التأكيدات المستمرة من خمس سنوات ، إلا أن الإحباط يتزايد عند الناس ، والثقة بهذا المستقبل تنهار بسرعة كبيرة ، وأخشى أن أقول أن إيمان الناس بالوطن ومفهوم الوطنية الجديد تراجع وأن حلم الشباب ـ ذخيرة مستقبل أي بلد ـ أصبح أن يجد فرصة للهجرة خارج الوطن بأي شكل ، وهذه أمور يسهل أن تراها وتقابلها في أي "تفصيلة" من تفاصيل حياتك في بر مصر ، في أي مصلحة حكومية أو عمل خاص أو مواصلة عامة أو نادي أو شارع أو مقهى أو مطعم ، هذا مناخ عام مخيف يتزايد الآن بصورة وبائية .
الناس تطابق الكلام الذي يتردد في كلمات رئيس الدولة ، وبين الأداء العملي الذي يقابلونه في مؤسسات الدولة ، وفي إعلامها وفي عدالتها وفي اقتصادها وفي تعليمها وفي مختلف مناحي الحياة فيها ، فيجد الناس البون شاسعا بين الكلام والفعل ، كيف يمكنك أن تحقق إنجازات ونهضة للوطن ومستقبل أفضل وكل ما حولك يشير إلى العبث وعشوائية الأداء وتوسيد الأمر إلى غير أهله بل أسوأ العناصر ، انظر إلى الإعلام الرسمي أو الإعلام الخاص الموالي للرئيس أو الدولة ، ستجد ـ في الغالب الأعم ـ أسوأ العناصر وأحطها قدرا بين الإعلاميين هم الذين يتصدرون المشهد ويحظون بالقربى والحماية والدعم والتمكين من أجهزة الدولة الرفيعة ، رغم أن ما يقدمونه من خطاب سياسي وإعلامي وإنساني يعتبر فضيحة أمام العالم كله ، مزيج من الجهل والغثاثة والفهلوة الرخيصة وتدني المهنية ، بينما يختفي الكفاءات الرفيعة والمرموقة والموهوبة في الإعلام المصري ، وهم كثيرون بالمناسبة ، فمصر دائما ولادة وقادرة على صنع الكفاءات ، ولكنها الآن طاردة لهذه الكفاءات ، هذا الأمر يعطي الانطباع بأن هذه "الفهلوة" المؤسسة على الولاء والنفاق الرخيص هي التي تستهوي صانع القرار وأجهزته ، العبيد الطائعون الذين ينفذون التعليمات مهما كانت كفاءتهم متدنية وفضائحية ، فإذا كان هذا هو "وش القفص" بالنسبة للنظام ، فكيف تتصور أن يثق أحد في النظام نفسه وقدرته على النهوض بالبلد أو افتراض أنه يملك أدوات هذا النهوض والتطور .
اذهب إلى أي جامعة مصرية وانظر إلى القيادات التي تم تسكينها في المناصب العليا على مستوى الجامعة وعلى مستوى كلياتها ، ستجد في الغالب الأعم أقل الأكاديميين قيمة وعطاء وعلما هم الذين يتصدرون المشهد والقيادة ، بل ويمنحون سلطة قمع الكفاءات وتهميشها أو ترويعها أو إجبارها على الهجرة أو الانزواء ، لأن هذا المناخ لا يمكن أن يصنع بيئة علمية أو أكاديمية محترمة تنهض بالمؤسسة التعليمية العليا ، كيف يمكن لمئات الآلاف من الجامعيين ، أساتذة ودكاترة ومعيدين وباحثين أن يثقوا في مستقبل هذا البلد ، وهم يرون أن الصدارة للأقل كفاءة والأكثر ولاءا للجهاز الأمني وتوجيهات السلطة ، وكيف تتصور أن هذا القطاع التعليمي الخطير يمكن أن يخرج أجيالا من الشباب عالي الكفاءة والمؤهل للنهوض بوطنه وقادر على التضحية ، وهو يرى "القدوة" أمامه هو الانتهازي والمنافق والفهلوي حتى لو كان منعدم الكفاءة .
إذهب إلى أي قطاع إداري في الدولة وتفرس قياداته ، تجده من نفس الشاكلة ونفس المستوى ونفس معايير الاختيار ، وأحيانا تجد الحرص على إعادة "تدوير" نفايات الحزب الوطني المنحل ، وتسكينهم في مناصب رفيعة في الدولة ، وراجع ما حدث في البرلمان نفسه وهو مؤسسة التشريع وصناعة القانون الأساسية ومؤسسة الرقابة المفترض على السلطة التنفيذية ، وكيف تم انتقاء غالبية قوائمه ومرشحيه ، فضلا عن أن تراجع أداءه وصورته أمام العالم ، لن تحتاج إلى شرح كثير لتدرك الكارثة ، وتجول بفكرك أو أسئلتك في مختلف قطاعات الدولة الأخرى ، ستجد أن هذه هي الظاهرة الأعم والتي تصبغ النظام الحالي بصبغتها ، نظام لا يبحث عن كفاءات وإنما عن خدم وسكرتارية ، أيا كان تدني مستواهم أو تدني سمعتهم وبعدهم عن الشفافية .
بالمقابل ، ابحث عن آلاف الأسماء من المفكرين والرموز والسياسيين الذين تباهي بهم بلاد مثل مصر ، ستجدهم وقد دفنوا بالحياة ، لا تسمع لهم ذكرا ، اختفوا ، طوعا أو كرها ، تنزها أو خوفا ، فهم أمام مناخ مخيف ومحبط ومهين لأي شخص جاد ويريد أن يصلح شيئا في هذا البلد ، فيرى أي "كريم" أن ينأى بكرامته وعزة نفسه عن الهوان والاستباحة .
العامة في مصر يعرفون مثلهم الشائع : "الجواب يبان من عنوانه" ، والعنوان ما نراه ويراه الناس الآن على سطح السياسة والإعلام والقانون والثقافة والاقتصاد والأمن ، لذلك يعرف الناس جواب المستقبل من هذا العنوان ، ولذلك ، ورغم كل الخطاب الجميل والتفاؤلي المتكرر للرئيس والوعود البراقة والحالمة ، تراجعت ثقة الناس بالمستقبل ، والجميع يردد : ربنا يستر على البلد .