الأهرام
المطران كريكور أغسطينوس كوسا
ميلاد المسيح يوطّد الحقّ والعدل والسلام
المسيح، كلمة الله الأزلي، وُلِد وسكن بيننا (يوحنا 14:1)، فلنفرح ونتهلّل ونسجد لسرّ الله العظيم (أفسس 32:5). هذا هو معنى الميلاد الذى نحتفل به اليوم. وهذا هو سبب فرحنا فى هذا العيد »لأنه قد وُلِدَ لنا ولدٌ وأُعطيَ لنا ابنٌ فصارتِ الرئاسةُ على كتِفِه، ودُعيَ اسمُه عجيباً مُشيراً رئيس السلام لنمو الرئاسة لسلام لا انقضاء لهَ، على عرش داوُدَ ومملكتِه لٍيُقِرَّها ويُوَطِّدَها بالحقِّ والبِرّ من الآن وإلى الأبد« (أشعيا 5:9-6).

وُلِدَ المسيح ليمنح الحياة للناس، ويجعلنا قادرين على معرفة الله، وأن نجعل حياتنا الأرضية بكل ما فيها بداية حياةٍ أبدية أى حياة مع الله. حياة، تكون نوراً لنا فى كل جهدٍ، ومسعى بشريا وكفاحا فى سبيل السلام. كل التحديات التى تواجهنا، أفراحنا وآلامنا، نجاحنا وفشلنا، نحن قادرون أن نحوّلها إلى حياة وسعادة أبدية، أعنى إلى حياة مع الله تستنير بنوره وتمتلئ بقدرته وصلاحه.

الميلاد بالرّوح القدس والحقّ: عيد الميلاد يجددنا بالرّوح القدس »الذى أفاضه الله علينا وافراً بيسوعَ المسيحِ مخلّصنا، حتى نُبَرّرَ بنِعمته فنصيرَ، بحسب الرجاء، ورثة الحياة الأبدية« (طيطس 6:3-7). فبقوةِ نعمة الرّوح القدس يتجدّد فينا الميلاد كل يوم، فنلتزم بجميع واجباتنا، العائلية والاجتماعية والوطنية، لنجعلها مصدراً ومنبعاً لنعمة الميلاد.

حياتنا الأرضية بكل فقرها وضعفها وبالإمكانات والنِعَم والمواهب الإلهية التى وضعها الله فينا، يجب أن تكون بداية حياةٍ أبدية. بقوةِ الميلاد، وبقوةِ روح الله وصلاحه الذى وضعهما فى قلب وضمير كل إنسان، نؤمِن أننا قادرون على صنع السلام والعيش بموجب متطلباته.

شمولية الميلاد: فى يوم ميلاد السيّد المسيح، لابد لنا أن نفهم رسالة هذه الأرض الشمولية، حيث تظهر لنا إرادة الله فى هذه الأرض من خلال الكتب المقدّسة، ومن خلال التاريخ، إذ هو نفسه الموحيَ به فى الكتب المقدّسة لأنه هو سيد التاريخ. وقد جمعنا هنا عبر العصور مسيحيين ومسلمين لنُكوِّن شعباً واحداً نقبل هذه الدعوة الشمولية ونصبح قادرين على صنع وبناء السلام فى كل مكان وزمان بمشيئة الله وعونه. هذه الأرض هى ملك الله، ولا يمكن أن تكون للبعض أرض حياة، وللبعض الآخر أرض شقاء وموت. كل ما جمعه الله من شعوب وقبائل، يجب أن يجدوا على هذه الأرض الحياة والكرامة والأمن والاستقرار.

طوبى للساعين إلى السلام، فإنهم أبناء الله يدعون (متى 9:5):كلنا يعلم كيف يُصنع السلام، والكل يعلم ما هو حقّ ومصير كل إنسان يعيش على هذه الأرض الطيبة. السلام يعنى ليس على الضعيف أن يستمر فى الخضوع والعبودية تحت سلطة القوي، وفى تجريد نفسه من متطلبات الحياة، بل على القوى الذى بيده كل شيء هو الذى يجب أن يعتنى ويهتم بالضعيف والفقير، وهو الذى يجب أن يزهد بما ليس له ويردّه لمن جرّده منه. ومع توفر الإرادة الحازمة والنيّات الطيبة لصنع السلام، يمكن لكل القضايا الصعبة أن تجد حلاً لها.

تاريخ البشرية مليء بالحروب، ولكنه مليء أيضاً بالله ونِعَمِهِ. والله محبّة، وليس إلهاً ظالماً يفرضه بعض المؤمنين على غيرهم وهم يَدّعون أنهم مؤمنون ويفرضون إرادتهم لا إرادة الله على غيرهم. يلجأون إلى العنف بسم الله، والقتل والقساوة والخراب لا تبرّره أى ديانة سماوية. التطرّف فى كل ديانةٍ ومجتمعٍ هو رغبة الاستيلاء والسيطرة وإلغاء الآخر وإخضاعه لا للإيمانِ بالله ووصاياه ومحبّة القريب بل لطرق وسلوكيات بشرية شخصية معادية للغير. على القيادات الدينية اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة مسئوليّة، ولها دور كبير وفعّال فى توجيه المؤمنين وتثبيتهم فى عبادة الله بالرّوحِ والحقّ والعدل (يوحنا 24:14)، وفى الوقت نفسه تعلّمهم طرق المغفرة والمسامحة والمصالحة (متى 14:6-15)، والحوار والتعاون مع كل إنسان ذى إرادة صالحة.

لا تخافوا: فى عيد الميلاد، عيد ميلاد ملك السلام، كُلُّنا لنا دور فى بناء وتوطيد السلام رغم كل الصعوبات والعقبات. أقول لكم ما قاله يسوع للناس أجمعين: »لا تخافوا«، فلا يحقّ لنا، وخاصةً للمسيحيّ أن يخاف، ولا أن يهرب من وجه الصعاب. هذا يعنى أن يحمل كلٌّ منّا فوق همومه هموم الكُل، هموم الوطن والعائلة والمجتمع، فنبنى السلام يداً بيد، ونقبل بالتضحيات لحل صعوبات الحياة اليوميّة، السياسيّة منها والاقتصاديّة، الاجتماعيّة والتربويّة والأخلاقيّة... وهكذا بتضحياتنا وسخائنا نبنى السلام لمصلحة الجميع.

هذه هى رسالتنا ودعوتنا: أن نكون فى هذا الشرق الذى منه انبعث النور، نور العالم، أرض السيّد المسيح. رسالتنا أن نُحافظ على مصر الكنانة التى زارتها العائلة المقدّسة حاملة إليها السلام بقداستها وبركتها. رسالتنا ولو كانت صعبة هى تثبيت لحضورنا الذى يبقى شاهداً للرسالة الشمولية لهذه الأرض بسرّ الميلاد العظيم، أرض الله ومهد الديانات السماويّة الثلاث. رسالتنا هى أن يعلم الجميع أننا نعيش فى تاريخ الله الذى هو سيّده. نعيش فى تاريخ يصنعه الله ويدعونا إلى أن نصنعه معه. هو الذى كان والكائن والذى سيكون، هو »البداية والنهاية والألف والياء«. بدون خوفٍ، وبإيمانٍ عميق وبثقةٍ كبيرةٍ بالله، نتابع طريقنا ورسالتنا ونحن أقوياء ممتلئين بالرجاء والأمل، وأحراراً من كل خوفٍ وتعب.

فى هذا اليوم الأغر، وأمام مغارة الميلاد نرفع صلاتنا من أجل السلام فى العالم، وأيضاً من أجل المتألمين والمرضى والمشرّدين واللاجئين، من أجل شهدائنا الأبرار الذين سقطوا ليسقوا بدمائهم الذكية أرض الوطن ليطهّروه من الأعداء والإرهاب لينعم أبناؤه بالحرية والكرامة. نصلى من أجل حُكامِنا حتى يحققوا بالحكمة والفطنة العدالة والأمن والاستقرار والسلام لبلادنا. ومع الملائكة ننشد ونسبّح الله قائلين: «المجد لله فى العُلى وعلى الأرض السلام وللناس المسرّة» (لوقا 14:2).
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف