حسن ابو طالب
الحنكة الروسية وسوريا الجديدة
منذ أن أعلنت روسيا فى نوفمبر الماضى مبادرتها الخاصة بعقد مؤتمر سُمى أولا مؤتمر الشعوب السورية، ثم تم تغييره الى مؤتمر الحوار الوطنى السورى، يعقد فى مدينة سوتشى الروسية، ويكون برعاية ثلاثية تجمع بين موسكو وأنقرة وطهران، وهناك الكثير من التساؤلات حول القيمة الحقيقية الذى يمكن أن يضيفها مثل هذا المؤتمر إلى العملية السياسية التى تتم برعاية أممية لتطبيق القرار الدولى 2254 والمعروفة بمباحثات جنيف، وهى أسئلة مشروعة ومهمة. فمجرد طرح بديل آخر للحوار بين السوريين غير مباحثات جنيف يُعد خصما منها، بل ويؤثر سلبا على مسارها المتعثر أصلا، والذى ظهر جليا فى الجولة الثامنة التى عقدت بين 28 نوفمبر حتى 6 ديسمبر، ولم تثمر شيئا على الإطلاق، وظلت الأمور على حالها تواجه حالة جمود مستعصية.
فى بداية الأمر قيل إن مؤتمر سوتشى الذى تقرر عقده فى نهاية يناير المقبل سيعقد لمدة يوم واحد لغرض تأييد الحل السلمى ووحدة سوريا ودعم المؤسسات السيادية، ومن ثم يسهم فى تسريع مباحثات جنيف. لكن يبدو أن هذا الهدف الرمزى قد تم تجاوزه، ففى اللقاء الثلاثى الذى عقد فى الاستانة قبل ثلاثة أيام بين رؤساء روسيا وإيران وتركيا، وهى التى تعرف بالدول الضامنة لمناطق خفض التوتر التى أنشئت قبل عدة أشهر، تم الاتفاق على تنظيم مؤتمر الحوار الوطنى بطريقة تؤدى إلى صياغة دستور ووضع نظام انتخابى، وذلك من خلال تشكيل لجان لهذا الغرض. وهو ما بيّنه نائب وزير الخارجية الروسى بقوله إنه سيتم تشكيل لجنة دستورية يشارك فيها ما بين 1500 الى 1700 شخص يمثلون كل أطياف الشعب السورى سوف يشاركون فى المؤتمر وتقوم العواصم الثلاث بتحديدهم، وأنهم سيحصلون على تفويض عام من الشعب السورى، وسيكونون مصدرا للتشريع باعتبارهم ممثلى الشعب حول جميع المسائل بما فى ذلك إصلاح دستورى. ولرفع العتب قال المسئول الروسى إن هذه المجموعات يمكنها أن تجتمع لاحقا فى جنيف، لوضع الدستور ونظام انتخابى، ثم مؤسسات سيادية جديدة بناء على هذه الانتخابات. وفى مثل هذه الحالة فإن وظيفة مباحثات جنيف ستكون قد ضربت فى الصميم، كما أن مشروعية تمثيل المعارضة السورية ستكون محل شك كبير. والمعلن أن هناك دعوة وجهت إلى المعارضة السورية للمشاركة فى مؤتمر سوتشى، ولكنها لم تحسم أمر المشاركة بعد. وإذا تصورنا أن وفد المعارضة المشكل من 30 عضوا أو أكثر قليلا قد شارك فى المؤتمر بأعضائه الذين يتجاوزون 1500 عضو قادمين من قلب القرى والمدن السورية، فما هو الثقل التمثيلى الذى يمكنهم الاستناد إليه فى طرح شروط ورؤى مسبقة أو غير مسبقة. وإذا ما شارك بعض أعضاء هذا الوفد المعارض فى لجان الدستور والنظام الانتخابى وغيرهما، فما الذى يمكن أن يسهموا به فى أى مفاوضات أخرى تحت مظلة جنيف والأمم المتحدة؟ إذ فى هذه الحالة ستكون جنيف مجرد قاعة لإقرار ما تتوصل إليه سوتشى.
مثل هذه الاسئلة تجسد محنة المعارضة السورية من جانب، ومحنة مباحثات جنيف من جانب آخر، كما تعكس وهذا هو الأهم حنكة روسية من شأنها أن تغير تماما كل المعادلات السياسية لإعادة بناء سوريا جديدة، تماما كما فعلت حين تدخلت عسكريا فى نهاية اكتوبر 2015، ما أدى إلى تغيير جوهرى فى الأوضاع الميدانية لصالح الجيش السورى وحلفائه ومهد بقوة لهزيمة داعش ومحاصرة تنظيم النصرة فى إطار محافظة إدلب وريفها، والذى يحمل اسم أحرار الشام لغرض الإفلات من قوائم الأمم المتحدة الخاصة بالتنظيمات الإرهابية. والتأمل فى فكرة المؤتمر يؤكد أن روسيا بالتنسيق مع كل من تركيا وإيران تعمل على استثمار علاقاتها الميدانية مع العديد من الشخصيات والفئات السورية لإحداث اختراق فى المسار السياسى، وفى الوقت نفسه توجيه رسالة الى المعارضة السورية التى تعمل فى الخارج أنها ليست وحدها التى تمثل الشعب السورى، فهناك قوى اخرى يمكن أن تشارك فى صياغة مستقبل سوريا وفقا لمبادئ وحدة الأرض والحفاظ على الدولة، ومن ثم فقد تتجه المعارضة السورية إلى مزيد من الواقعية بدلا من التمسك بشروط تعجيزية غير مقبولة. ومع ذلك يمكن القول أن هناك قدرا من التضارب يمكن أن يحدث بين مسارى جنيف وسوتشى، فإلى جانب تشتيت الجهود الساعية إلى تسوية سياسية شاملة، فإن أى اتفاقات أو تفاهمات يمكن أن يصل اليها مؤتمر سوتشى ستظل مرهونة بالتوافق بين الدول الثلاث الضامنة، أى روسيا وتركيا وايران، ومعروف أن هناك خلافات قائمة بين هذه الدول الضامنة لاسيما ما يتعلق بمشاركة الأكراد، وهم قوة شعبية وسياسية وعسكرية كبيرة لا يمكن تجاهلها. فكل من تركيا وإيران يرفضان مشاركة الحزب الديمقراطى الكردى لأنهما يعتبرانه امتدادا لحزب العمال الكردى التركى المحظور، ويقبلان من يعتبر ممثلين أكرادا محايدين، وهو شرط يجعل نجاح مؤتمر سوتشى فى تمثيل كل فئات الشعب السورى غير مؤكدة. ففى حالة وجود شخصيات كردية محايدة، فمن المرجح ألا يكون لهم تأثير شعبى يماثل تأثير الحزب الديمقراطى، وبالتالى تصبح مشاركتهم رمزية لا أكثر ولا أقل. ومع افتراض أن مؤتمر سوتشى حقق أهدافه الرمزية والسياسية فإن ترجمة هذه النتائج فى مباحثات جنيف التالية سيظل مرهونا بشرطين رئيسيين؛ أولهما تفاهم أمريكى روسى لتسريع الحل السلمى. أما الشرط الثانى فيتعلق بتوافر توجهات أكثر مرونة من قبل وفدى الحكومة والمعارضة على السواء من جانب آخر. ولعل أهم ما يجب أن تتنازل عنه المعارضة السورية هو شرط اختفاء الرئيس بشار الأسد من مجمل العملية السياسية والقبول بوجوده على الأقل فى المرحلة الانتقالية وفق ضوابط معقولة. وفى المقابل أن يتفاعل الوفد الحكومى مع مفردات التسوية كالدستور والانتخابات والحكم الانتقالى كعملية متكاملة تستهدف بناء نظام سياسى سورى جديد تماما تتيح لكل فئات الشعب السورى المشاركة فى كل المؤسسات السيادية بدون قيود. وفى كل الأحوال فنحن أمام عملية سياسية بديلة بعيدة عن أى مشاركة عربية، ستؤدى غالبا إلى إعادة إنتاج سوريا جديدة غير التى نعرف.