الوطن
د. محمود خليل
«المناورة».. والقبول بالأسوأ
يجيد الأمريكان النفاذ إلى الدول من خلال نقاط ضعفها. قد تكون نقطة الضعف فى الاقتصاد، فتنفذ من خلال المعونات، وقد تظهر فى ملف حقوق الإنسان، فتتسلل من خلال المنظمات المحلية والأممية التابعة لها، وقد توظف فيها أيضاً مؤسسات الدولة الأمريكية، كما يظهر فى مواقف الكونجرس.

فى كل الأحوال ليست الولايات المتحدة الأمريكية بالدولة التى تريد تنمية الدول أو المجتمعات التى تمنحها معونات، وهى أيضاً ليست بالدولة المدافعة عن حقوق الإنسان، فالمعونات هدفها الأساسى السيطرة على القرارات السياسية للدول وتوجيهها طبقاً للبوصلة الأمريكية، وحديث الإدارة الأمريكية عن حقوق الإنسان يغلب عليه الانتقائية، فما أكثر ما تتربص وتتصيد حين تغضب على دولة معينة فتبدأ فى إخراج ملفاتها «الحقوقية» من الأدراج، وما أكثر أيضاً ما تضرب صفحاً، بل تتستّر، على انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان فى مجتمعات ودول تحظى بالرضاء أو الرعاية الأمريكية، مثل إسرائيل التى تسحق حقوق الإنسان الفلسطينى منذ عقود طويلة برعاية الدولة الأمريكية.

الحسم والسرعة اللذان امتازت بهما القرارات الأمريكية المعبّرة عن غضب إدارتها من الدول التى قادت حملة الدفاع عن عروبة القدس داخل جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة، لهما فى ظنى حسبة سياسية معينة تدور حول فكرة «المناورة».

الإدارة الأمريكية ترى أن الموقف الذى اتخذته العديد من دول العالم، وخصوصاً العالمين العربى والإسلامى، داخل الأمم المتحدة أساسه «المناورة على الشعوب».

فالحكومات تريد أن تمتص مشاعر الغضب الذى تأجّج لدى العرب والمسلمين بعد القرار «الترامبى» بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها، ليس أكثر.

والحكومات العربية ربما تكون متفقة على تفسير القرارات الأمريكية الغاضبة فى إطار «المناورة» أيضاً، فعندما تحدثت الولايات المتحدة على سبيل المثال عن ضرورة أن تقوم المملكة السعودية برفع الحصار عن اليمن من أجل إدخال المعونات الغذائية والطبية، وهو ما طالبت به إدارة «ترامب» بعد ساعات من رفض الحكومة السعودية لقرار «ترامب»، فُهم فى الرياض على أنه لا يعدو المناورة، والدليل على ذلك أن الحصار المضروب على اليمن لم يتحلحل حتى الآن. وقس على ذلك القرارات والمناكفات التى أظهرتها الإدارة الأمريكية إزاء عدد من الدول العربية الأخرى.

«المناورة» تبدو مثل «كلمة السر» فى تفسير أداء كل من الحكومات العربية والإدارة الأمريكية فى التفاعل مع ردود الفعل الغاضبة التى أبداها الشارع العربى على قرار «ترامب»، لكن فى تقديرى أن هذه المنهجية لا تنجح فى كل الأحوال، ربما كانت فاعلة ومؤثرة فى مواقف أو أحداث معينة، لكنها بالنسبة لمسألة «القدس» لن تكون لها القيمة المتوقعة. الاعتماد على أن الغضب سوف يذوب بمرور الوقت وأن الشعوب سوف تنسى القرار الذى اتخذه «ترامب» لتعود المياه إلى مجاريها ليس وارداً لسبب بسيط، جوهره أن قرار الاعتراف بالقدس، لو نُسى، سوف تعقبه خطوات أخرى قد تكون أشد وطأة منه، ما يعنى استمرار الوجع الشعبى. الشعوب تشعر بإحساسها أن تمرير القرار السيئ الذى اتخذه «ترامب» يعنى القبول بـ«الأسوأ»، لذلك لن تُجدى معها المناورات.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف