ايهاب الحضرى
نوّاب التزويغ.. وعفاريت الكراسي!
قبل أكثر من ثلاثين عاما قررت خوض مغامرة يعتبرها زملاء لي سلوكا عاديا، كنت وقتها طالبا في الثانوية العامة، وفي الشهر الأخير أصبح الذهاب للمدرسة مضيعة للوقت، ودفتر الغياب هو دافعنا الوحيد للانتظام الشكلي، ورغم أن زملاء كثيرين اعتادوا »التزويغ» إلا أنني ظللت مُلتزما، حتي أدركت أن الالتزام يلتهم وقتا يمكن استغلاله في المذاكرة. وهكذا مضيتُ مع زملاء مخضرمين إلي جانب من مدرسة الأورمان، وتسلقنا السور العالي، قبل أن يظهر الناظر فجأة مُلوّحا بعصاه، ارتبك أحدنا وسقط أمامه لينشغل به، بينما دفعني حظ المبتدئين إلي الناحية الأخري، وظللت أعدو في ملاعب جامعة القاهرة، حتي ابتعدت تماما عن منطقة نفوذ الناظر، وقتها أقنعت نفسي بأن الغاية تُبرر الوسيلة، وأن درجة واحدة تزيد مجموعي تستحق شرف المخاطرة!
تذكرتُ هذه القصة وأنا أتابع غضب الدكتور علي عبد العال رئيس البرلمان من تزويغ النواب، الذي أصبح ظاهرة مزمنة، أدت خلال الفترة الأخيرة لتأجيل التصويت علي عدد من القوانين، والسبب ببساطة هو عدم اكتمال النصاب القانوني! ولم يجد رئيس البرلمان أمامه سوي إبلاغ الصحافة عن نواب »التزويغ»! بعد أن بذل جهدا بالجلسة العامة أمس الأول، في استدعائهم من البهو الفرعوني، للتصويت علي قانون حقوق ذوي الإعاقة، والغريب أن النوّاب صوّتوا وقوفا واستعدوا بعدها للانصراف بسرعة، مما دعا الدكتور عبد العال لمخاطبتهم قائلا: »هي الكراسي فيها عفاريت؟»!!
وأعتقد أن حالات التزويغ من المظاهر النادرة، التي يُثبت فيها النواب أنهم يمثلون ناخبيهم تمثيلا حقيقيا، فـ »عفاريت الكراسي» ظاهرة مستشرية في كل إداراتنا الحكومية، التي أصبحت تعاني من ندرة الموظفين في المكاتب، رغم كثرتهم في الدفاتر، حتي أن محافظ الشرقية خلال جولة مفاجئة له بمستشفي أبو كبير المركزي قبل شهور، اكتشف »اختفاء» 255 طبيبا وصيدليا وإداريا وممرضا وعاملا! لكنه لحسن الحظ وجد المرضي، ربما لأن صحتهم لم تساعدهم علي التزويغ! بمجرد نقرات بسيطة علي »جوجول» ستظهر مئات النتائج التي تكشف حالات مشابهة في مختلف محافظات مصر، تُكرّس لهذا النوع من الفساد الإداري، الذي يُمثل نزيفا اقتصاديا لا يُستهان به، فمنذ عامين قدّر رئيس أكاديمية السادات خسائر تزويغ الموظفين بنحو 790 مليون جنيه في اليوم، أي حوالي 237 مليار جنيه سنويا! ولأن التسيب يُطبق عدالته الخاصة، فإنه لم يُفرق بين الرجال والنساء، حيث أكدت دراسة أجراها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء مؤخرا، أن متوسط ساعات عمل المرأة المصرية في المصالح الحكومية أقل من خمس ساعات، مقابل نحو 13 ساعة تقضيها في النوم والاهتمامات الصحية! لم أستطع أن أفهم المقصود تحديدا بالاهتمامات الصحية لكنها لم تشغلني كثيرا، لأن ما استرعي انتباهي هو تعامل الكثيرين منا مع ساعات العمل بوصفها وقتا مُستقطعا من أولويات أخري عديدة، حتي أصبح أداء الوظيفة مقصورا علي أوقات فراغهم فقط!
قبل سنوات استطاع الناظر أن يُحاصر الطلاب، فقام برفع مستوي السور، ثم زرع أعلاه كتلا من الزجاج المكسور، كي يجعل مهمة الهرب صعبة، وحاليا يكفي أن يقوم رئيس البرلمان بتفعيل اللائحة الداخلية للمجلس، لأن التهديد بإسقاط عضوية نواب »التزويغ» كفيل بـ »صرف العفاريت» عن كراسيهم، مما يضمن لهم جلوسا هادئا وهانئا! وفي بقية قطاعات الدولة يحتاج الأمر إلي وقفة حاسمة، للقضاء علي الظاهرة، لكي لا نفاجأ ذات يوم بأن »العفاريت» في بلادنا أصبحت سيدة الموقف، وأن التسيب أحال الهيئات الحكومية إلي بيوت للأشباح!!