كأنه اكتشاف.. يذهب رئيس الوزراء إلي معهد القلب فيندهش من حجم الفوضي والفساد والإهمال.. ويطلق دفعة من التصريحات والتهديدات المدهشة من عينة "ما كنتش فاكر الأوضاع كده.. هو احنا في سوق عكاظ.. الناس تعبانة وطالع عينها.. بقالنا 4 سنوات بعد الثورة وقلنا هنتغير لكن احنا ما بنتغيرش لأن مفيش ضمير.. كله هيتحاسب".
لا.. المسألة ليس فيها اكتشاف.. لأن رئيس الوزراء كان يعرف.. هو نفسه أكد ذلك حين قال: "أنا لدي تقارير عن كل شيء.. بداية من فساد الدعامات وتكدس المرضي في العيادات الخارجية.. ومروراً بتقصير بعض الأطباء واهتمامهم بعياداتهم وغيره.. وكله هيتحاسب".
ولم يكن هناك اكتشاف أيضاً بالنسبة لوزير الصحة الذي لم يندهش مما رآه في معهد تيودور بلهارس للأبحاث بالوراق.. وصرح بأن "المرضي علي الرصيف ومش هاسيبهم كده.. دي مسئولية قدام ربنا.. وأنا بقالي 8 شهور بذاكر المعهد".
وبالنسبة لنا أيضاً لم يكن هناك اكتشاف.. فنحن نعرف إلي أي مدي وصل الفساد والإهمال وسيطرت الفوضي علي كل مؤسسات الدولة عموماً.. ومؤسسات الصحة خصوصا.. نحن نعرف دون أن تتوافر لدينا تقارير كتلك التي توافرت لرئيس الوزراء ووزير الصحة.. نحن فقط نري ما يدور علي أرض الواقع ونعاني مثلما يعاني الناس في معاهد الصحة والمستشفيات.. ونكتب عن هذه المعاناة لكن لا أحد يأخذ ما نكتبه علي محمل الجد.
ولكي نكون صرحاء.. ونؤدي الأمانة التي في أعناقنا.. يجب أن نقول لرئيس الوزراء ولوزير الصحة ان المشكلة ليست في معهد القلب ومعهد بلهارس وحدهما المشكلة أكبر بكثير من ذلك.. كل المستشفيات الحكومية فيها فساد وفوضي وإهمال.. والمرضي يفترشون الطرقات والأرصفة.. وصورهم تعصف بكل كلام حقوق المواطنة وكرامة المواطن.. وليس متصوراً أبداً ان الحل سيأتي عندما يزور رئيس الوزراء هذه المستشفيات ويعاقب بعضا من الأطباء والممرضات.. وليس متصوراً أيضاً ان الحل سيأتي عندما ينقل وزير الصحة مكتبه لفترة في كل مستشفي من هذه المستشفيات.
وما رأيتموه في معهد القلب ومعهد بلهارس من فوضي وإهمال وفساد موجود في الجامعة والمدرسة والوحدة المحلية والأحياء والتأمين الصحي.. والمشكلة متوارثة ومعقدة.. المشكلة ليست في الأشخاص الذين من السهل تغييرهم.. المشكلة في "السيستم".. في النظام.. في المتابعة.. في الانضباط.. في القدرة علي تغيير العقلية التي تدير مرافق الدولة وأجهزة الدولة.
بصراحة.. المشكلة في فهم الناس لطبيعة العلاقة التي تربطهم بالدولة.. والدولة القوية هي التي تضع قوانين واضحة المعالم.. قوانين منضبطة ومحكمة.. لا تقبل الاستثناء أو التفلت.. الدولة القوية ليست دولة البطش وإنما دولة القانون الصارم.. دولة الانضباط.. ليست دولة الكلام ولا دولة التهديد وإنما دولة النظام العام العادل.. الذي يعطي من يعمل ويعاقب من يهمل ويفسد.
وضبط الجهاز الإداري للدولة لا يحتاج إلي تصريحات وتهديدات.. وإنما يحتاج إلي متابعة جادة وجيدة.. وقوة حزم لا يخالطها ترهل أو مجاملات وحسابات سياسية تدلل الهتيفة والبلطجية وتتسامح مع المفسدين والعاجزين والمقصرين إذا أبدوا ولاءهم ورفعوا عقيرتهم بالنفاق.
في اليوم التالي مباشرة لنشر تهديدات رئيس الوزراء الصارمة كشفت وزارة الزراعة عن كارثة الهدية الإماراتية البالغة 100 ألف رأس من العجول.. وأحالت هذا الملف "الحرج" إلي النيابة الإدارية.. فقد كشفت تقارير اللجان الفنية عن العديد من المخالفات المالية التي شابت أعمال تسليم رءوس الماشية بالمحافظات.. وتبديد البعض منها والاستيلاء علي قيمتها وبيع البعض الآخر بالسوق السوداء بالمخالفة لضوابط توزيعها.
حتي الهدية لم تسلم من العبث والفساد.. وهو ما يضع الدولة كلها في حرج أمام الإماراتيين والخليجيين وأمام أنفسنا.. ماذا حدث لنا بالضبط.. هل غاب الضمير.. أم سقط "السيستم"؟!