إزاء الكثير من القضايا التى نصفها بـ«الوجودية» لا تؤدى الدولة على النحو الذى يحقق الأهداف المرجوة. عن مسألة التعامل مع أزمة «سد النهضة» أتحدث. منذ يومين نشر موقع «المصرى اليوم» تقريراً صادراً عن مركز «ستراتفور» الأمريكى للتحليلات الاستراتيجية، جاء فيه: «من المرجح أن تُجبر مصر على العودة إلى طاولة المفاوضات لحل أزمة السد عاجلاً وليس آجلاً»، وأضاف أن نقص الخيارات أمام القاهرة، وتراجع قدرتها على التوحد مع السودان ضد دول المنبع، واستمرار بناء السد «يظهر عدم جدوى تكتيكات القاهرة القديمة، وأن دول المنبع تكتسب النفوذ فى سياسات مياه حوض النيل».
هذا الكلام يقدم وصفاً دقيقاً للمأزق الذى تعيشه مصر حالياً فيما يتعلق بأمر السد الإثيوبى. فعقب الزيارة التى قام بها سامح شكرى إلى إثيوبيا خرجت تأكيدات رسمية تفيد باستمرار نهج التفاوض من أجل حل الخلافات بين الطرفين المصرى والإثيوبى، وأن مصر اقترحت إدخال البنك الدولى كطرف محايد يمكن أن يساهم فى المشورة الفنية، بحكم ما يمتلك من خبرات فى هذا السياق. التفاوض الذى تجرى مصر وراءه الآن يتم تحت ظرفين: الأول يتمثل فى حالة العزلة التى أفلحت إثيوبيا فى فرضها على مصر داخل حوض النيل، بعد أن أصبحت السودان منحازة إليها، ووقّعت باقى دول المنبع على اتفاقية عنتيبى، التى لا تعترف بأية اتفاقيات تاريخية سابقة بشأن توزيع حصص مياه النيل. الظرف الثانى يتمثل فى «اقتراب إثيوبيا من الانتهاء من بناء السد»، ما يعنى أن المنهجية التى اعتمدت عليها إثيوبيا فى إدارة أزمة السد والمتمثلة فى فرض الأمر الواقع آتت أكلها وحققت أهدافها، وأية مفاوضات جديدة لن تشهد تغييراً فى المنهجية التفاوضية الإثيوبية، بل ستمنح أديس أبابا المزيد من الوقت لتتمكن من إتمام الجزء المتبقى من السد.
الحديث عن «التفاوض» فى سياق هذين الظرفين يعنى أننا لن نحقق شيئاً، فما عجزنا عن إنجازه خلال المفاوضات التى أعقبت التوقيع على اتفاق المبادئ (مارس 2015)، حين كانت الظروف والأوضاع على أرض الأزمة أفضل من ذلك، لن نستطيع أن نحققه اليوم. التمسك بالتفاوض كأداة لحل المشكلات أمر محمود، بشرط أن تجد من الطرف الآخر العقلانية التى تجعل للتفاوض نتائج مثمرة على الأرض، وفى غير تلك الحال يصبح مضيعة للوقت، وتفويت الفرصة على طرق أخرى للحل -غير التفاوض- قد تكون أنسب للوقت والظرف الذى يحكم الأزمة. التجربة الدولية تقول إن الكثير من دول العالم تلجأ إلى فرض إرادتها بكل ما تملك من أدوات ووسائل فى مواجهة أى «خطر وجودى».
قد لا أبالغ إذا قلت إن كل أطراف ومؤسسات السلطة فى مصر أمام اختبار من العيار الثقيل فيما يتعلق بموضوع سد النهضة. الشعب سوف يراقب الأداء وأسلوب التعامل مع هذا الملف الخطير، خلال الأشهر المقبلة، ويقينى أن أية تحديات أو أعباء تحمَّلها هذا الشعب تتصاغر فى عينه عندما تقارن بموضوع «المياه». ولن يرضى أحد بأقل من الحل الناجز الذى يضمن حصة مصر التاريخية فى مياه النيل. تحقق مؤسسات الدولة هذا الحل بالتفاوض أو بأية طريقة أخرى ترتئيها.. المهم أن تحل قبل فوات الأوان.