يسرى عبد الله
تحولات نوعية فى مواجهة الإرهاب
لم يكن صلاح الموجى يفكر فى أى شيء حين انقض على الإرهابى إبراهيم إسماعيل الذى حاول تفجير كنيسة مارمينا بحلوان، وإعمال القتل بالمصريين، فقط كان يحرك صلاح هم واحد يتعلق بمواجهة القتلة، مثلما لم يكن مواطن نبيل آخر يفكر فى أى شيء سوى حماية الكنيسة، وهو يصرخ من ميكروفون المسجد داعيا الناس إلى الاتصال بالإسعاف، ولم يكن أبطالنا من رجال الشرطة الذين يواجهون الموت ببسالة نادرة يطمحون إلى شيء سوى الحفاظ على مقدرات وطن عظيم. لم يكن يعتقد الإرهابى وممولوه والتنظيمات المتطرفة التى ينتمى إليها، أن ثمة تحولا نوعيا قد حدث فى المواجهة، فالمصريون غادروا الصمت، وفطنوا إلى أن مجابهة الإرهاب مسئولية مجتمعية، ومن هنا كان الموقف المذهل الذى صنعه ناسنا فى حلوان، بدءا من الفيديوهات التى تم رفعها على اليوتيوب تصف ما حدث بدقة، والانقضاض على الإرهابى بعد أن أسقطته رصاصة فى قدميه لأحد رجال الشرطة البواسل. لم تفطن التنظيمات الدينية أن ثمة شيئا قد بدأ يتغير فى المعادلة، ولم يزل الإرهاب يراهن على تفتيت النسيج الوطنى المصري، ومعاقبة الجميع، وبدت اليقظة الشرطية سيدة الموقف، والجاهزية حاضرة.
يبدو حضور حلوان فى الوجدان الجمعى للمصريين يتعلق بشيئين أساسيين، يتصل أولهما بوصفها مشتى جميلا منذ نشأة المدينة اعتمادا على حالة المناخ والطقس داخلها. وتبدو التركيبة الديموغرافية للسكان فى حلوان شديدة التنوع، حيث يتوزع السكان على نحو عشرين فى المئة من إجمالى مساحتها الكلية، فثمة ظهير صحراوي، وهذا ما قد يوظفه الإرهابيون للهرب أحيانا، ولا ننسى أن حضور الجماعات الإسلامية داخل حلوان كان مكثفا فى التسعينيات من القرن الماضي، ثم برز من جديد عقب ثورة الثلاثين من يونيو، حيث كانت حلوان معقلا للتظاهرات الإخوانية ضمن أمكنة أخرى معروفة، ولأعمال عنف صاغتها تنظيمات فرعية خرجت من عباءة الجماعة الإرهابية الأم (الإخوان)، على غرار كتائب حلوان، والإرهابى مرتكب الحادثة نفسه شارك فى أعمال عنف عديدة، بعضها فى الحيز المكانى لحلوان. نحن إذن بحاجة حقيقية إلى خلق مبادرات جديدة داخل هذا المكان المستهدف بحكم تكوينه السكانى المتنوع، وسماته الجغرافية، وكونه جزءا مركزيا داخل العاصمة المركزية ( القاهرة)، حيث يتم الإيحاء لوسائل الإعلام العالمية التى يتربص بعضها بالدولة المصرية بأن ثمة غيابا للأمان، وبما يعنى أيضا أن الصلة بين قوى الرجعية وبعض مراكز الهيمنة على العالم لم تزل على أشدها، سعيا لتفتيت الهويات الوطنية، وتجزئة القوميات.
إن الوعى بالبيئة المحلية وإمكاناتها المتعينة خطوة مركزية فى مواجهتنا للإرهاب، فالمحيط المكانى لحلوان يضم جامعة كبري( جامعة حلوان)، يجب عليها أن تنهض بجانب من المسئولية الفكرية والتنموية داخل المكان، فمجابهة البنى المعرفية المتكلسة والأفكار الماضوية التى يحملها الإرهابى وغيره من القتلة والبرابرة يفرض على الجامعة مواجهة المد الرجعى داخل المكان عبر الانحياز إلى قيم التقدم والتنوير، والمشاركة الخلاقة فى تحرير الوعى المصرى عبر تكريس المنحى العلمى فى التفكير، والحفاظ على القيم العلمية والأكاديمية الرفيعة، فضلا عن التكريس لقيم المواطنة والتسامح وقبول الآخر، وصياغة المعنى الإنسانى للوجود على نحو يتجاوز الإنشاء إلى الواقع.
وربما سيكون أيضا دراسة الخصائص السكانية سواء الكمية منها والمتعلقة مثلا بكثافة السكان، أو الخصائص النوعية ومنها العوامل الاجتماعية مثل التعليم والتنمية والثروة مهمة أصيلة للبحث العلمى لمنح صانع القرار المصرى صورة موضوعية عن المكان، تحمل الطابع المنهجي، بلا افتئات أو مبالغة. وسيكون مهما للغاية دراسة سيكولوجية الجماعات المتطرفة، خاصة أن الفيديوهات المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعى والمتعلقة بالحادثة تكشف عن شخص يحمل نزوعا انتحاريا، يقتل بدم بارد، يبدو نتاجا لبنية ذهنية خربة، تجعل من الماضى حضنا وملاذا، وتعتقد أن اقترابها من الجنة يأتى بحصد المزيد من رءوس الأبرياء!، فى مفارقة مأساوية تكشف عن ذهنية اليقين المطلق، والامتلاك الكلى للحقائق. ولعل أحد أهم آليات مواجهة الإرهاب تكمن فى الوعى بنسبية العالم، والتخلى عن التصورات اليقينية عن العالم، والتى تجعلنا أمام أبنية جاهزة تناهض قيم التفكير والمساءلة، وتقف موقفا تحريضيا ضد قيم العقل النقدى بانحيازاته الطليعية.
يتزاحم على الدولة المصرية الآن الخارجون من كهوف الماضي، والمتربصون بالمصريين ومعاشهم اليومي، فى ظل لحظة عالمية شديدة التعقيد، مرتبكة وغائمة على كل المسارات، تبدو فيها مصر قادرة على الحلم والمجابهة، يتلاحم أبناؤها بمحبة تليق بتراكم حضارى لأمة عظيمة تقف بثبات ضد محاولات الهيمنة والتفتيت. وبعد.. كانت مصر الحقيقية فى حلوان، بتلاحمها الوطني، ووحدتها الخالدة، وقدرتها على دحر الإرهاب، وبنزوعها الفطرى صوب المحبة وهى تقاوم الكراهية، والنبل حين يواجه الخسة.