اعتاد المسلمون الاحتفال بميلاد رسولنا الأكرم، واعتاد الإخوة المسيحيون شركاء الوطن وجزء نسيجه الاحتفال بميلاد سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، واعتاد كثير من المسلمين الاحتفال بأعياد الميلاد من غير إدراك كثير منهم لارتباط المناسبة بميلاد المسيح عليه السلام، وإنما هى عندهم لنهاية عام ميلادى وبداية آخر، واعتاد فريق آخر إثارة حكم هذه الاحتفالات جميعًا كل عام، وهؤلاء تفرقوا فرقًا، فبعضهم يجيز الاحتفال بميلاد الأنبياء عمومًا، وبعضهم يمنعه ويحرمه، وبعضهم يجيز للمسلمين الاحتفال بميلاد سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم فى حين يمنع مشاركة المسيحيين الاحتفال بأعياد الميلاد، بل يحرم تهنئتهم بهذه المناسبة. ونقر ابتداء أن ما يثار من لغط وجدال عقيم كل عام فى هذا الشأن ما هو إلا مسلك خاطئ ومضيعة للوقت بلا طائل فى وقت تحدق بأبناء الوطن جميعًا المخاطر من كل جانب، ففضلًا عن التراجع الأخلاقى والقيمي، والضعف الاقتصادى والتردى التعليمى والصحى الذى لا تخطئه عين ولا يخفى على ذى لُب؛ هناك التطرف والإرهاب الذى يحصد أرواح الأبرياء مسلمين ومسيحيين ويهدد استقرارهم ويزعزع أمنهم ويبدد مقدرات وطنهم، بل إنه يدمر دولًا كاملة فى مسعى لإفقاد العرب قوتهم وعزتهم وإضعاف لُحمة مجتمعاتهم ووحدة نسيجهم الوطني، ولم يعد يخفى على أحد تربص أعداء الأمة بنا.
ولعل هذا الاستغراق والانشغال بهذه الجزئيات الفرعية التى لن تُحسم، هو جزء من مخطط كبير رسمه أعداء الأمة ولم ينسوا وضع دور فاعل لنا فيه حتى نُشغل عنهم، بل ونعينهم علينا بضعفنا ووقوعنا فى شَرَك التلهية الذى نصبوه لنا، فلو كنا فطناء حقًّا لما درنا فى هذه الحلقات المفرغة مهما اختلفت وجهات نظرنا حولها، فما على غير المقتنع بجواز الاحتفال بميلاد الأنبياء قاطبة إلا ترك الأمر برمته وعدم الانشغال باحتفال الآخرين.
ولو أن المنشغلين ببيان الحكم الشرعى فى أمر الاحتفال بميلاد الأنبياء والتهنئة بهذه المناسبات كانوا من العلماء حقًّا، لما حاروا كل هذه الحيرة وما أصدروا أحكامًا ما أنزل الله بها من سلطان فى هذا السياق، فالاحتفال بميلاد رسولنا - صلى الله عليه وسلم - هو رأى السواد الأعظم من المسلمين، وأدلتهم على ذلك كثيرة، منها اعتزازه باليوم الذى وُلد فيه، وقد كان من بين الأيام التى يصوم فيها، ففى صحيح مسلم: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ: «فِيهِ وُلِدْتُ وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ». وتحريم بعض المسلمين احتفال شركاء الوطن بميلاد المسيح عليه السلام لا وجه له ولا حق لنا نحن المسلمين فيه، فهو تزيد وتدخل فى شئونهم التى أمرنا شرعنا الحنيف بعدم التدخل فيها وتركهم وما يعتقدون، فضلًا عن أننا كما لا نقبل منهم التدخل فى ما نعتقده فى ديننا، يجب علينا أن نكف عن التدخل فى شئونهم كمسيحيين.
ولعل النقطة الباقية، وهى احتفال المسلمين بميلاد المسيح عليه السلام أو ما يعرف برأس السنة الميلادية، هى أبرز النقاط فى هذا السياق وربما يظن بعض الناس أنها أعقدها، مع أن الأمر فيها لا يختلف عن سابقاتها، فقد سبق القول إنه لم يفرض علينا الاحتفال بميلاد رسولنا الكريم ولا بميلاد المسيح عليهما الصلاة والسلام، ولذا فلا شيء على التارك، ولكن ليس له أن يمنع الفاعل أو يحرم عليه فعله؛ لأن المنع والتحريم لا يكون إلا بدليل قطعى الدلالة، ولا وجود لهذا الدليل بين نصوص شريعتنا السمحة، بل إن المدقق لا يعدم أدلة على الجواز، ولعل منها قول ربنا: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ»، فنحن ونبينا أحق بإبراهيم أبى الأنبياء، وقد أمرنا ربنا باتباع جميع الأنبياء .
ولو أردنا استقصاء أدلة جواز احتفال المسلمين بميلاد عيسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام، لطال بنا المقام، ولكن الأهم فى هذا السياق هو كيفية الاحتفال وليس حكمه، وهو ما ينبغى أن يتحدث الناس فيه، فكثير من احتفالات الناس مخالفة لقواعد شرعنا، فالاحتفال برأس السنة أو ميلاد عيسى عليه السلام لا يكون بسهرات صاخبة وارتكاب الموبقات التى حرمتها المسيحية قبل الإسلام، واحتفالنا بميلاد سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - لا يكون بشراء بعض الحلوى وتوزيعها على الأهل والأقارب، ولا أقصد بطبيعة الحال تحريم الحلوى بيعًا وشراء فى هذه المناسبة، ولكن أقصد الاكتفاء بها كمظهر للاحتفال، فالاحتفال بميلاد نبى من الأنبياء يكون بإحياء سنته، ونشر سيرته، والتأسى ببعض صفاته وأخلاقه، وتطبيق شريعته واتباع تعاليمه التى جاء بها.