الأهرام
أسامة سرايا
تحية لفيلسوف الإليزيه!
هناك عالم جديد يظهر فى الأفق، سنكتشف أنه صعب، وله ملامح مختلفة عن النظام القديم. وهو عالم، ليس كما تصورناه بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وانتهاء الحرب الباردة، وسيطرة الولايات المتحدة على مقاليد الأمور، وتسييرها لأوروبا الموحدة، وتحكمها الجزئى فى المصير البشري، وامتلاكها معظم أوراق قيادة العالم! فالعالم الجديد أصبح، تقريباً، بلا قيادة. وهذا لا يعنى أن الولايات المتحدة لم تعد تملك أوراق القيادة، فهى لا تزال فى المقدمة، ولكن هناك قوى مختلفة صار لها وجود ظاهر، وباتت تملك تأثيرا كبيرا فى المسرح الدولي. وهذا المقال ليس استشرافا لملامح هذا العالم، ولكنه محاولة لالتقاط صورة عامة لمؤشراته الحاكمة، صورة للمواطن العادى حتى يعرف أين يقف، وأخرى أكبر لمن يملكون القرار حتى يتحركوا فى المسار الصحيح.

أولا: موقعنا فى مصر: لا يسعنى إلا أن أرسل للمصريين بطاقة تهنئة فى مطلع عام 2018، وذلك لقدرتهم الفائقة على امتصاص ضربات موجعة، كان يراد منها أن يكونوا خارج خريطة التأثير، سواء داخليا أو خارجيا فى المنطقة فى الشرق الأوسط، فإذا بهم يتحركون بقوة لا يمكن قياسها الآن، وسنعرف حجمها فى المستقبل، فمسار الشعوب الكبيرة لا يقاس بعام أو عامين.

ففى الحقبة الراهنة رفضنا أن يتسلط علينا قرار من الخارج، أو يتحكم فى مقاليدنا تيار عفى عليه الزمن، فأسقطناه بسرعة خرافية، ولم نتوقف عن ملاحقه العصر والتغيير، وأصبح لنا رصيد لا يمكن لأى عقل محايد أن يسقطه من الحساب، ولم نكتف بذلك، فحاولنا ترميم منطقتنا المتهالكة، والخارجة من حقبة التفكك والانهيار، بالحفاظ على قضية فلسطين حية، مع إنشاء تحالف إقليمي، أتمنى له أن يقوى ويزدهر ويدافع عن كل المنطقة. وأتمنى أن يعرف المصريون ما خططته لهم التيارات المتأسلمة، فقد تحالفت مع الأعداء، لإسقاطهم، ثم إخراجهم من التاريخ والجغرافيا، وأتمنى أن يواصل المصريون البناء على ما تحقق فى النصف الثانى من هذه الحقبة الصعبة فى تاريخ المنطقة العالم.

ثانيا: شركاؤنا الإقليميون فى الشرق الأوسط: إنهم يواصلون التحرك فى هذا الفراغ الذى لا تحكمه قيادة، فالإسرائيليون واصلوا السقوط فى بئر التعصب والسيطرة على الشعب الفلسطيني، ورفضوا إعطاءه حقوقه، رغم الفرصة التاريخية التى طرحتها المنطقة أمامهم بالتعايش، ولكنهم، بروح التعصب وسيطرة عنصر القوة، ضربوا عرض الحائط بكل آمال الوصول إلى حل تاريخى لصراعهم الطويل مع العرب والفلسطينيين، فى محاولة للاستفادة من الضعف الأمريكى ليستحوذوا على القدس الشرقية كجزء من دولتهم، فكان سقوطهم داخليا وخارجياً. أما الأتراك، فيحاولون التمدد والسيطرة خارج حدودهم، وهم خارجون من أزمة داخلية طاحنة، تكاد تكون قد قسمّت الشعب التركى والجيش والإسلاميين، وفى حال بدء أى صراع لن تسعفهم محاولات التوسع العسكرى فى سوريا أو فى السودان أو فى بعض البلاد الإفريقية. وهكذا تجرى الأمور فى إيران، وقد بدأت فى طريق الانهيار الداخلي، فالشعب الإيرانى يتحرك الآن دفاعا عن مستقبله، بعد أن بدد الملالى الثروة البترولية فى صراعات مع الغرب، وفى المنطقة بلا طائل، ولم يستفد الشعب الإيرانى شيئا، وتدهور مستوى معيشته. أما باقى الدول العربية، خاصة الخليجية، ودول شمال إفريقيا، فإنها مطالبة بأن تتلاحم مع أشقائها لمواجهة الخسائر التى منيت بها المنطقة.

ثالثاً: أوضاع أوروبا: لا يسعنى إلا أن أحيى الشعب الفرنسى لانتخاب فيلسوف، هو الرئيس إيمانويل ماكرون، وقد حاول، قدر المستطاع، أن يقدم نموذجاً لاستمرار إشعاع الحضارة الغربية، وسط انكماش بريطانى غير متوقع بعد البريكست، والخروج من أوروبا، ثم تردد ألمانى كالعادة. وسوف يتذكر الأوروبيون كلمات ماكرون حين رفض السياسات الأمريكية الانسحابية، ثم الضعف أمام تغول المتطرفين المسيحيين أو الانكماشيين الذين رفعوا شعار أمريكا أولا، وتركوا العالم يسقط، ويحاولون الآن تهميش ما تبقى من نظام بعد الحرب العالمية الثانية، بضرب الأمم المتحدة والمنظمات الدولية. والرئيس الفرنسى ماكرون أعطى إشارة قوية قادمة من الغرب، فهو الوحيد الباقى من سيطرة القوى الغربية على مقاليد العالم بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، بما يمثله من قيم رفيعة، ودور لا يخفى على أحد. ولكن هل تكفى الفلسفة، أو الأفكار المبدعة لقيادة العالم مع غياب القوة الشاملة؟ أعتقد أنها لا تكفي. ولكننا سنتذكر مواقف فرنسا من قضايا المنطقة العربية، وسنتذكر خطاب ماكرون التاريخى أمام قمة كوكب الأرض المنعقدة فى بلاده، عندما هدد بأن العالم أصبح على وشك خسارة المعركة مع المناخ، إن لم يكن قد خسرها بالفعل، ولم يعد أمام البلاد الفقيرة إلا دراسة المناخ بعناية، وإلا ستواجه خسائر مادية، ونقصا مخيفا فى الغذاء والمياه والطاقة. كلمات ماكرون سوف يتذكرها كثيرون ممن ضربوا عرض الحائط، مثل ترامب وغيره، بقضية الاحتباس الحرارى العالمي، وتأثيرها على مستقبل الاستقرار للأمم المختلفة ..

ماكرون يجب أن يحصل على جائزة نوبل للسلام، فقد واجه العقل الأمريكى المنسحب بكل شجاعة، لكن كثيرين لم ينتبهوا لخطورة ما يقول.

نحن أمام زعيم عالمى جديد مختلف، يحاول أن يقول إن الغرب لم مقعد معقد القيادة، فهل يستطيع ؟ لنرى ماذا سيحدث فى المستقبل.

رابعاً.. وأخيراً. أما باقى دول العالم الكبري، فلا يسعنا إلا أن نطالبها بالتدخل حتى تتحمل مسئولياتها، وتنقذ البشرية من الحروب، وقد تحقق لها النمو والازدهار الاقتصادي.. وأخص هنا اليابانيين والصينيين. فالعالم ينظر إليهم وينتظر منهم، ويطالبهم بأن تكون لهم كلمة مسموعة، وأن يدرسوا تجربة الرئيس الفرنسى صغير السن الذى وضع نفسه فى مكانة كبيرة، ونعتبره دليلاً على استمرار النظام العالمى الذى ورثناه بعد الحرب العالمية الثانية، ذلك النظام القادر على منع الحروب العالمية الجديدة.

تحية إلى الشعب الفرنسى الذى انتخب رئيساً قادراً على إعطاء الإنسانية أملا فى القدرة على لجم الصراعات، وإنقاذ الشعوب والأمم من الانهيار.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف