الأهرام
صلاح سالم
الإلحاد الفلسفى والإلحاد السوقى!
تتوارد الأخبار عن مشروع قانون اقترحه النائب عمرو حمروش، أمين سر اللجنة الدينية على مجلس النواب المصرى، لملاحقة الملحدين وعقابهم، دفاعا عن الإسلام. وبدورنا نرفض هذا القانون وندعو أعضاء المجلس الموقرين إلى الانشغال بما هو مفيد لمن انتخبوهم دون خشية على الإسلام من ظاهرة كانت موجودة قبله وستظل قائمة فى وجوده، دون قدرة على قطع طريق سيره التاريخى. بل نقترح على البرلمان إقرار قانون يعترف بالإلحاد كموقف فكرى، يكرس لصاحبه الحق فى الحياة والتفكير والتعبير من دون افتئات على حريته أو بغى على دمه وماله، بحيث يتم إسقاط تهمة ازدراء الأديان من الدستور والقوانين المكملة له، أو حتى قصرها على السلوكيات العملية الجالبة للفتن وليس على الآراء النظرية المثيرة للجدل، انسجاما مع روح الشريعة السامية، ومنطق النص القرآنى القائل: «لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغىَّ» ولا معنى هنا لما يخشاه البعض من ذيوع الإلحاد وتمدده إذا ما تم الاعتراف به؛ لأن الملحد جوهريا لن يؤمن بالله تحت ضغط العقاب القانونى بل سيتحول إلى باطنى منافق، أى ملحد كامن ربما كان أكثر خطرا على الإسلام من ملحد صريح؛ مثلما أن المسلم المتعصب والمتطرف أخطر على الإسلام وعلى الاجتماع الإنسانى كله من ملحد مهذب وخلوق وإيجابي، وهنا يتعين علينا التمييز بين نوعين من الإلحاد:

أولهما هو الإلحاد الفلسفى، الذى ولد فى سياق الصراع الممتد بطول التاريخ تقريبا، حول الكائن القدسي الأسمى (الإله)، والذى عرفته الثقافة الأوروبية الحديثة فى صيرورة تحولها من التقليد إلى الحداثة، وفى إطار تحررها من الفلسفة المدرسية (التومائية) القائمة على العناق بين اللاهوت المسيحى، والمنطق الأرسطى، وباسمه تحدى فيورباخ الإيمان المسيحى، كما تحداه فرويد، وماركس ونيتشه، ودوركهايم. لقد أنكر هؤلاء الحقيقة الإلهية، ولكن إنكارهم جسد موقفا معرفيا مسئولا، أفنوا في بلورته جل أعمارهم، وأعادوا فى سياقه تأمل التاريخ البشرى كله، وأنتجوا فى ظله نظريات عدة اتسم أغلبها بالعمق فى تفسير العديد من الظواهر الإنسانية سواء الاقتصادية ـ الاجتماعية لدى ماركس، أو الاجتماعية ـ الدينية لدى إميل دوركهايم أو النفسية كالأحلام لدى فرويد. بل إن تفسير الأخير لما اعتبره نيتشه موت الإله تفسيرا سسيولوجيا بنظرية «قتل الأب»، أى تصور أن الإله لم يكن أكثر من أب بشرى قام أولاده بقتله كنوع من الغيرة الذكورية على الأم، تخلصا من سلطته ورغبة فى احتلال موقعه، رغم سذاجتها فى تفسير الحقيقة الإلهية، قد أضاءت لنا عشرات الظواهر الإنسانية، ومنها على سبيل المثال الصراع بين الأجيال، حيث يسعى اللاحق للاستحواذ على ثمار ما زرع السابق، أو الحلول محله، رغم ما قدمه السابق للاحق من دعم ومساعدة فى لحظة البداية.

ما أردنا قوله هنا أن الموقف الإلحادي على درجة من الخطورة تدفع العقول المسئولة إلى التحسب له، حتى تكاد تفترش الطريق إليه بكل أنواع المعارف، التى تضئ جوانب الظاهرة الإنسانية المعقدة، ولم نقصد القول بأن الإلحاد يمثل بالضرورة الموقف العقلي (الإيجابي)، الذى أنتج وحده معرفة عميقة بالعالم والإنسان، فثمة عقول كبرى أنتجت من داخل الإيمان نظريات وأفكارا أكثر إلهاما من قبيل كانط وفلسفته النقدية الباقية حتى اليوم. وجوته بمثاليته الجامعة بين العقلانية النافذة، والروحانية الشفافة. وكذلك هيجل الذى لم يحل دفاعه عن معجزات المسيح نفسها، دون تقديمه لأحد أبرز الإبداعات الفلسفية عبر التاريخ، وهو مفهوم الجدل المثالى، القائم على صراع الأفكار المتضادة، الذى أنهى السطوة التاريخية للمنطق الصورى الأرسطى، القائم على الشكلية والسكون، مكرسا للفكر الحديث. وصولا إلى الفيلسوف الألمانى المعاصر يورجن هابرماس الذى لا يزال ييسعى لإقامة جسر بين الدين والعلمانية فى إطار إعادة توصيف وتوظيف للمجال العام الاجتماعى، كفضاء رخو يتوسط صلادة المجالين المتصارعين: العام السياسي والخاص الفردى، بحثا عن أفق جديد ما بعد علمانى.

أما ثانيهما فهو (الإلحاد السوقى)، الذى يفتقر القائلون به إلى العمق والمسئولية، ويعولون فقط على الغرابة والاستفزاز فى التعاطى مع الحقيقة الإلهية، ناهيك عن السخرية من رجال الدين المسيحى وأئمة الفقه الإسلامى، على نحو ما تجلى كثيرا فى حوارات الإعلام المصرى؛ فهذا النمط الإلحادى يخلو من أى استدلالات منطقية، إذ يضع أصحابه مقدمات صحيحة ولكنهم لا يصبرون على الوصول بالبرهان إلى نتائجها الأخيرة المستقيمة. والبادى من طبيعة المرحلة العمرية لأغلبهم، أن التسرع هو سمتهم، وأنهم لم يبذلوا جهدا معرفيا يذكر فى تأمل الموقف الإنسانى المعقد، فلا غايات واضحة لإلحادهم، سوى الاستعلاء على جموع المؤمنين، باعتبارهم ذلك القطيع الذى يحسن التفرد فى مواجهته بالإلحاد، كمحاولة للبحث عن هوية ضائعة.

مشكلة هذا النوع من الإلحاد (السوقى) أنه عدوانى بقدر ما هو استعلائي، فالملحد الفلسفى لا يسرع إلى إعلان إلحاده، ولا يفاخر به، حتى أن بعض من ذكرنا أسماءهم سلفا، اللهم سوى نيتشه، لم يعرفوا أنفسهم كملحدين أصلا، بل وصفهم بذلك مؤرخو الثقافة الذين أتوا بعدهم. كما أن المحفز الأساسي للملحد الفلسفى هو الشعور بالمسئولية عن الإنسان، والرغبة فى تخليصه مما يعتبره (أوهاما تعطل العقل، وتقيد الحرية. أما الملحد السوقى فغالبا ما يسرع إلى إعلان إلحاده، قبل أن يتأمل حيثياته، لأن الهدف هنا هو تحقيق الشهرة والذيوع. ولعل هذا يذكرنا بمرحلة المراهقة لدى كثير من الناس، وهى مرحلة معروفة بالميل إلى تأكيد الذات، ولو عبر ممارسات عبثية غالبا ما يندمون عليها بعد النضوج، ومن ضمنها عادة التدخين، تقليدا للأب، وتمردا على سلطته التى يرونها قمعية، بل وعلى طفولتهم التى يرغبون فى تخطيها، ولكنهم سرعان ما يحنون إليها فى مراحل تالية من العمر، حينما يقض الشيب مضاجعهم. وهنا لا تبدو المشكلة فى الموقف الإلحادى بذاته، بل فى سوقية الملحدين واستسهالهم واستفزازيتهم، مثلما تبدو مشكلة الموقف الإيمانى ليس فى الدين ذاته بل فى المتعصبين والمتطرفين، ومن ثم تكمن دعوتنا إلى رفض هذا القانون انطلاقا من احترامنا لحرية الاعتقاد وحقيقة التعدد وحق الاختلاف.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف