هذا الملف مغلق وفى موقع عميق من ذهن الهدف.. ولا يفتح إلا بمعرفته هو فقط وذلك عند الضرورة ووقت الخطر.. لهذا هو عصى على الفهم يصعب اختراقه أو هزيمته.. هذا هو السر.. سر الشعب المصرى كما تصور وكتب المخرج خالد جلال فى مسرحيته الجديدة «سلم نفسك» والتى تعرض على مسرح مركز الإبداع الفنى بدار الأوبرا المصرية.. ولكأن الفنان يستشرف المستقبل ويرسم ملامح الشخصية المصرية بكل تناقضاتها وصراعاتها الحالية فبعد أن قدم لنا «قهوة سادة» قبيل يناير 2011 وكانت عن الفساد الحكومى والإعلامى وتدهور التعليم والفن والثقافة المصرية فى مقابل التغيرات العالمية والإقليمية التى هيمنت فيها القوة والسلطة مع رأس المال المحلى والعربى على الفكر وغيرت وشوهت التاريخ نجد أن فى هذا العمل الجديد يخرج خالد جلال من دائرة الآخر إلى دائرة الذات، حيث يبحث العرض المسرحى فى خبايا التغيرات المتلاحقة التى أصابت الشخصية المصرية وشوهت سلوكها وتصرفاتها لدرجة أنها صارت كالفيروس أو الطاعون والمرض الخبيث الذى يدمر كل من يلامسه أو يتواصل معه.. فالعرض يبدأ فى عالم آخر وزمن مستقبلى وأرض السلام والأمن والمحبة يوتوبيا الغد وقد أعلن الحاكم عن وجود كائن غريب خطر على المواطنين وعلى البلد فصدرت الأوامر للسلطات الأمنية بتسليمه وحجزه وعزله فى مختبر يقوم عليه ثلاثة علماء.. رجلان وامرأة.. وتبدأ رحلة البحث عن المرض القاتل داخل عقل الكائن البشرى الذى أتى من زمن آخر.. وتفتح ملفات العقل والنفس واللاوعى لنكتشف أن ذلك الكائن المصرى قد دمرت كل ملفاته البشرية أخلاقيًا وعاطفيًا وسلوكيًا.. فهو ينتمى لمجموعة من البشر تأكل لحوم ذويها بالنميمة والوشاية والإشاعة كآكلى لحوم البشر.. وأن ذلك الكائن لا يعرف الحب ولا يحترم الصداقة أو الأخوة وأنه ابن عاق وزوج ضعيف وأنه قد صار أسيرًا لعالم التكنولوجيا والفضاء الافتراضى الإليكترونى ولم يعد قادرًا على التواصل الإنسانى بعد أن فقد النخوة والرجولة والشهامة على كافة المستويات وأنه يعيش بلا أخلاق ولا ضمير يبيع كل شيء، حتى الدين استغله للسلطة وللمال وللسيطرة وفى سبيل أى شىء يدمر نفسه ومن حوله.. انهارت القيم والمنظومة الأخلاقية بالكامل ولم يعد يملك أى ملف إيجابى ينقذه من الموت بعد أن فتحت كل ملفات عقله على العلماء يجدون ملفًا يمنحه قبلة الحياة ويسمح بعلاجه من هذا الوباء الذى يدمر كل خلاياه.. وفجأة يظهر ذلك الملف الأخير المغلق الذى لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريقه هو شخصيًا.. فى لحظات فارقة خطرة يحددها هو ملف وسر الوطن وحب تلك الأرض الطاهرة وذلك الوادى الخصيب وادى النيل.. فى مشهد أخير نجد الفلاح والراهبة والجندى والمعلم والطبيب والعروس وهم يظهرون فى النهاية ليؤكدوا أن السر فى بقاء المصرى هو الوطن وحبه وانتماؤه لتلك الأرض وذوده عنها وتجمعه فى لحظات المصير.. كما حدث فى الحادثة الأخيرة حين حمى شيخ الجامع الكنيسة وأذن فى المصلين لنصرة ونجدة إخوانهم فى كنيسة مارى مينا بحلوان.. وحين زغردت المصرية لحظة سقوط الإرهابى بيد الحاج صلاح وانقض عليه المصريون يريدون الفتك به.. هذا هو سر وهذا هو الفن الصادق الرائع للمبدع العبقرى خالد جلال وفريقه المسرحى الواعد.. وهذا هو المصرى الذى لن يبيع ولن يفرط ولن يسقط أبدًا.