أنا لا أرى أى فرق بين الذين تظاهروا ضد المسيحيين من أبناء قريتهم لأنهم بنوا لأنفسهم كنيسة يؤدون فيها شعائرهم الدينية وهذا ما يرفضه الذين تظاهروا من أهل القرية وهددوا بهدم الكنيسة لو أصبح لها وضع قانونى يسمح للمسيحيين بأن يزودوها بما لابد للكنيسة من أن تتزود به لتصبح كنيسة ـ الصليب والجرس ـ أقول لا أرى أى فرق بين هؤلاء الذين تظاهروا فى قرية كفر الواصلين التابعة لمركز أطفيح والذين تظاهروا قبلهم فى قرى أخرى ضد المسيحيين لأسباب مماثلة وبين عامل الألوميتال الذى هاجم كنيسة مارمينا العجايبى فى حلوان وأطلق النيران على حراسها من رجال الشرطة وعلى من وجدهم أمامه من المسيحيين فقتل تسعة وأصاب خمسة آخرين. التظاهر ضد المصلين المسيحيين فى كنيسة الأمير تادرس فى قرية كفر الواصلين إرهاب لا يختلف عن الإرهاب المتمثل فى الهجوم الذى وقع بعده بأيام قليلة على كنيسة حلوان ولا عن الهجوم الذى وقع قبل سنوات فى أعياد الميلاد على كنيسة القديسين فى الاسكندرية. هذه الحوادث التى تستخدم فيها الرشاشات والمتفجرات أو تستخدم فيها الهتافات والتهديدات ويقوم بها أفراد قلائل من الإرهابيين المنظمين أو عشرات ومئات من المتظاهرين تقع كلها فى سياق واحد هو الحرب التى أعلنتها جماعات الإسلام السياسى منذ عدة عقود على الدولة ممثلة فى أجهزتها الأمنية وقواتها المسلحة وعلى المجتمع وخاصة على المسيحيين الذين يمثلون الكثير فى المجتمع رغم أنهم فى الدين أقلية بالنسبة للمسلمين. المسيحيون المصريون يمثلون الكثير لأنهم الأصل الذى استقبل الإسلام وأخذ منه وأعطاه، بعد أن استقبل آباؤهم المسيحية وأخذوا منها وأعطوها. وكما انتقل آباؤهم من ديانتهم المصرية الأولى إلى المسيحية انتقلوا من المسيحية إلى الإسلام.
والذين لا يعرفون تاريخ مصر يتعاملون مع المسيحيين المصريين كما لو كانوا منذ البداية أقلية منفصلة معزولة ليس لها إلا أن تعيش على هامش الأغلبية. لكن هؤلاء يتجاهلون أو يجهلون أن المسلمين المصريين الذين يمثلون الأغلبية هم أحفاد المسيحيين الأقباط الذين اعتنقوا الإسلام. أما الذين تمسكوا بعقيدتهم ولم يعتنقوا الدين الجديد فقد تعربوا لتكون اللغة المشتركة وثقافتها بديلا عن العقيدة المشتركة وحضنا يجمع بين أصحاب الديانتين يدور فيه الحوار ويتحقق التفاعل والتكامل. العامية المصرية هى ثمرة اللقاء بين العربية الفصحى من ناحية والمصرية القبطية من ناحية أخري. والشهور القبطية هى الزمن الذى يحياه الفلاحون المصريون، والأعياد والموالد المسيحية والإسلامية ليست مجرد أسماء ومناسبات، ولكنها ثقافة وطنية جامعة. والكنيسة المصرية بعقيدتها الخاصة وكيانها المستقل كانت رمزا نبيلا لمصر المستقلة طوال العصور التى رزحت فيها تحت حكم الغزاة الأوربيين والآسيويين . وهذا هو المكان الذى يحتله المسيحيون المصريون فى المجتمع المصرى. إنهم ركن أساسى من أركان هذا المجتمع وبدونهم. لا تكون مصر هى مصر التى نعرفها ونحبها وننتمى إليها، ولا يكون المصريون بدونهم أمة عريقة لها تاريخها الحافل ولها مستقبلها الذى لابد أن يكون امتدادا طبيعيا لماضيها. وهذا ما يتناقض مع الفكر المتخلف الذى تتبناه جماعات الإسلام السياسي. هذه الجماعات تحلم بإحياء الخلافة والاحتكام للشريعة،أى تحلم بإسقاط الدولة الوطنية المصرية وإسقاط الدستور الذى ينص على أن الأمة بمعناها السياسى الذى يشمل كل المواطنين على اختلاف دياناتهم وعقائدهم هى مصدر كل السلطات. فالأمة هى التى تختار حكامها وتغيرهم. والأمة هى التى تضع قوانينها وتعدلها وتغيرها لتلبى حاجاتها ومطالبها وتحقق مصالحها التى تتطور وتتغير. كل هذا الذى حاولنا أن نحققه فى نهضتنا الحديثة تنقلب عليه جماعات الاسلام السياسى وتسعى للخروج منه وإعادتنا إلى ماكنا عليه من قبل ننتمى للدين وحده، ونتخلى عن استقلالنا الوطني، ونعود ولاية يحكمها الشركس والأكراد والأتراك، ونتنكر للديمقراطية وحقوق الانسان، ونعتبر أشقاءنا المسيحيين المصريين أجانب أو ذميين يعيشون فى حماية حكامهم. وهذه ليست أفكارا جديدة، وإنما هى تراث العصور الوسطى التى مازلنا نتعثر فى طريق الخروج منها. لأننا لم ننجح حتى الآن فى مراجعة تراثها الذى لاتتبناه جماعات الإسلام السياسى وحدها، بل يتبناه معها معظم المشتغلين بعلوم الدين لأنهم لايرون أمامهم إلا هذا التراث القديم الذى نجده فى شعارات الإخوان كما نجده فى بيانات داعش وفى أحاديث الشيخ عمر عبدالرحمن والشيخ كشك والشعراوى والغزالىوغيرهم من الشيوخ الذين تربوا عليه وأسسوا حياتهم ومصالحهم وأصبحوا حراسا له يلقنونه للأجيال الجديدة ويقاومون كل محاولة تبذل للخروج من تأثيره بفكر جديد يؤسس للدولة الوطنية وللنظام الديمقراطى الذى لايمكن أن ينهض أو يترسخ أو يزدهر ويعطى ثمراته فى الانتاج الفكرى والعملى مادمنا نخلط بين الدولة والدين ونرجع للمفتى فيما نأكل ونشرب ونلبس ونخلع، ونتغنى بالثأر ونعالج الجرائم التى ترتكب فيه بحمل الأكفان، ونواجه الفتنة الطائفية بتقبيل الذقون. وفى هذا كله يفقد القانون سلطانه ومكانه، والقانون هو الدولة التى تغيب بغياب القانون وتفقد وجودها لتحل محلها العصبيات المحلية والتقاليد البدوية الدخيلة التى تكره الاختلاف وترفض الاختلاط وتلجأ للعنف وتعيش بالغزو وشن الغارة على الآخرين. وفى هذا السياق الذى انحدرنا إليه خلال العقود الستة الماضية وبتأثير من هذا الفكر المتخلف المدعوم بالنفط الذى فرض نفسه على الأميين وأنصاف الأميين يكون كل ما جد فى حياتنا خلال القرنين الماضيين منكرا على هؤلاء أن يغيروه بأيديهم كما فعل العامل الذى هاجم كنيسة حلوان، فإن لم يستطيعوا فبالمظاهرات والهتافات كما حدث فى قرية كفر الواصلين وكما حدث قبل ذلك فى قرى أخرى خرج فيها المتظاهرون بعد أن صلوا الجمعة واستمعوا لما قاله أئمتهم ليهدموا كنائس المسيحيين ويهدموا معها الدستور الذى ينص على حرية الاعتقاد ويسوى بين المواطنين، ويهدموا القانون، ويهدموا الدولة والمجتمع.