الأهرام
عبد المنعم سعيد
بين يدى صلاح عيسى ؟!
قبل عقد تقريبا كتبت فى هذه الصحيفة الغراء مطالبا بمنح مجموعة من الشخصيات السياسية والأدبية جوائز الدولة سواء كانت التقديرية أو قلادة النيل، حيث راعنى تجاهلهم من قبل الجهات المعنية، أو النخبة السياسية والثقافية التى تسهم فى منح هذه الجوائز. هؤلاء كانوا مع حفظ الألقاب أمين هويدى ومحمد حسنين هيكل وأسامة الباز وصلاح عيسى وعلى سالم، وقد عددت ساعتها مبررات معالجة تقصير كبير فى حقهم جميعا وهم الذين قدموا خدمات جليلة للوطن، بعضها حافظ على بقائه، وبعضها الآخر أعطاها من الفكر رحيقا يبنى ويقود إلى التقدم. الآن أصبحوا جميعا بين يد الله، ولا أظن أن أيا منهم سوف يشكو له مما فعلت الجماعة المصرية إزاءهم فقد عرفوا جميعا بعزة النفس ومشاعر الرضا على أنهم قد حصلوا من المصريين مباشرة ما يكفى من تقدير. صلاح عيسى لن يكون استثناء من هذه القاعدة، ولكن ذلك لن يمنع شخصا مثلى من الغضب، لأن الأمم العظيمة هى التى تستطيع تقدير عظمة رجالها وقدرهم، وقد رحل عنا قبل أن نقوم جميعا بواجبنا نحوه تقديرا وعرفانا.

عرفت صلاح عيسى أولا مما كتبه عندما قرأت له كتاب «الثورة العرابية» الذى وصلت إليه أثناء بحث أجريه عن «عبد الله النديم»، ومثل ذلك اكتشافا كبيرا لقدرات تحليلية رفيعة لعالم اجتماع سياسى رصين، بعد أن كان التصنيف السائد لصاحبنا أنه «يساري» من الأجيال الجديدة التى تلت جيل اليساريين العظام اسماعيل صبرى عبد الله وفؤاد مرسى ومحمد سيد أحمد؛ وهؤلاء كانت صفاتهم العامة الرطانة و«الحنجورية» خاصة بعد اختلاطهم الطويل مع «الناصريين». الكتاب وضع رجلنا على مائدة القراءة المستقرة بالنسبة لى والتى كانت لها فوائدها الكبيرة لأكاديمى مهنته البحث، وإنما أيضا للمتعة. وسواء كانت الكتابة فى الصحف، خاصة فى «الأهالي» وقت مجدها، أو «القاهرة» وقت مجدها أيضا، أو فى الكتب، وعن «ريا وسكينة» أو «الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم»، فإن الغنى الشديد للموضوع معلومات وتحليل كان مصاحبا دوما بلغة جميلة وفوقها ساخرة وفيها ما يزيح الغم عن موضوعات محزنة. خلاصة صلاح عيسى هى القدرة على تحقيق قدر كبير من النشوة ومتعة القراءة وإعطاء الشعور أن القاريء ينتهى بعد القراءة إلى نقطة يصبح بعدها مختلفا عما كان قبلها. وزاد على ذلك خبرة كبيرة فى الأمور القانونية والدستورية، خاصة تلك التى تخص الحريات العامة، وحرية التعبير والصحافة والإعلام، فقد كان حجة لمن يبحثون عن الهداية مثلى فى هذه الموضوعات.

كنت قد عرفت صاحبنا ثانيا من خلال «السياسة» عندما قابلته وجها لوجه عندما كان يطوف بمؤسسة الأهرام داعيا إلى انتخابه فى مجلس نقابة الصحفيين، وأظنه وجد على نفسه واجبا للمرور على صحفيين أيا كان موطنهم الفكرى بمن فيهم مخالفوه مثلي. جرى بيننا نقاش بقدر ما سمح الوقت، وكان قد حاز على ثقتى قبل التصويت، وبات ذلك حتميا بعد اللقاء رغم ما أعرفه من بعد المسافة الفكرية. وجاءت اللحظة السياسية الكبيرة فيما بعد عند صدور القانون 93 لعام 1995 الخاص بالصحافة والذى كان بكل المعايير كارثة قومية من الطراز الثقيل. كنت فى ذلك قريبا من الأستاذ إبراهيم نافع رئيس مجلس إدارة الأهرام ونقيب الصحفيين (رحمه الله)، ومعه أعددنا استراتيجية لإدارة الأزمة والنجاح فيها. قصة ما جرى يستحق أن يروى فى وقت آخر، ولكن جزءا مهما من الخطة كان ضرورة الحفاظ على وحدة الصحفيين مهما كانت توجهاتهم الفكرية والحزبية، وهو أمر لمن عاش المهنة على مدى العقود الماضية من الصعوبة إن لم يكن من الاستحالة بمكان. كان اقتراحى أن هناك ثلاثة إذا ما نجحنا فى كسبهم فإن هناك فرصة وهم الأساتذة حسين عبد الرازق، وصلاح عيسي، وعادل حسين. وهكذا كان أول اجتماع لقيادات العمل الصحفى فى حجرة رئيس مجلس الإدارة فى مؤسسة الأهرام، والذى بدأ والجميع متوجسون مما يريده «صحفيو السلطة»، وانتهى إلى وجود هدف للجميع وهو إزاحة القانون المشئوم بجهد مشترك للجماعة الصحفية كلها بحيث لا يتوقف الجهد فى المؤسسات القومية والحزبية مع الانعقاد الدائم للجمعية العمومية للصحفيين، وفى الوقت نفسه لا يحدث انفجار يؤدى إلى مواجهة مع السلطة. سارت الأمور كما بات معروفا، ولكن جزءا كبيرا منها جرى من خلال جهد قمت به مع الأستاذين حسين عبد الرازق وصلاح عيسى، وجهود كبيرة قام بها الدكتور محمد السيد سعيد ـ رحمه الله ـ مع باقى المجموعات السياسية فى النقابة. ما وجدته فى هذا الجهد أن صلاح عيسى إلى جانب كونه مفكرا كبيرا فإنه أيضا سياسى محنك يدرك تماما ماذا تعنيه العملية السياسية من حدود، وهو ما ظهر بعد ذلك فى كثير من كتاباته التى أعاد فيها تقييم أحداث 1977، وتحفظاته على مواقف الجماعة اليسارية وما أدت إليه من ضياع فرصة للتطور الديمقراطى فى البلاد، ولعل ذلك كان أيضا موقفه من أحداث يناير 2011 وما تبعها.

كان صلاح عيسى قد أصبح اشتراكيا ديمقراطيا وهو ما وضعه فى نطاق يسار الوسط المصري، وربما جعله هذا «مهادنا» لمن كانوا على يساره، ولكنه بالنسبة لى صار ذلك المفكر على الجانب الآخر من الوسط الذى كان كلما اتسع كان ذلك فى مصلحة الأمة وتطورها الديمقراطي. ولكن ذلك كان خلاصة مواقفه الفكرية عندما بات عليه أن يدلى بدلوه أثناء وضع الدستور فقد كان عضوا احتياطيا فى لجنة الخمسين، وما تلاه فيما يخص تطبيقه ووضعه فى نصوص قانونية معقولة ومتوازنة. هناك ما هو أكثر تفصيلا يمكن أن يقال عن كاتبنا الكبير، وكتبه وكتاباته وأحاديثه سوف تظل معنا، ولكن الأمر هنا أن مصر فقدت قامة عالية وكاتبا ومفكرا عظيما، وسياسيا رصينا، وذهب عنا فى وقت ربما كنا فى أكثر المراحل حاجة إليه. رحمه الله وخالص التعازى لزوجته الفاضلة الأستاذة أمينة النقاش وأسرته الكريمة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف