استكمالا لما بدأناه فى المقال السابق، أعرج على نقطة مهمة، قد تبين بوضوح، الدور المنوط بالقطاع المصرفى فى بلدنا، شأنه شأن كل بنوك العالم، لا خلاف، ولكن ونحن فى أزمة اقتصادية كبيرة، تتطلب تكاتف كل قطاعات الدولة لنتجاوزها، وفى ظل تقديم القطاع المصرفى لقروض لدعم المشروعات الصغيرة.
يكون من المنطقى متابعة هذا الدعم لمعرفة تأثيره الإيجابى على أزمتنا الاقتصادية، سيما أن الـ200 مليار جنيه مبلغ ضخم، يمكن من خلاله تغيير آليات السوق بشكل يعجل بتقليل الفجوة بين الصادرات والواردات، كأمل كنا نصبو لتحقيقه، ونسعى لتذليل الصعوبات المعوقة له.
لكن أريد تذكيركم بالأداء المصرفى فى السنوات القليلة القريبة، فكنا نجد البنوك تهرول خلف الناس لإقناعهم بعمل كروت الائتمان، وبضمانات غريبة، منها أن تكون مشتركا فى أحد الأندية، ووصل الأمر لمنح قروض بنفس الضمانات، ولا أعرف كيف تكون عضوية النادى ضمانا لتسديد المديونية، فهل سيدفع النادى حال تعثر العضو؟!
ولا يخفى علينا، حجم الفائدة الذى يصل لـ 26 % سنويا على هذه الكروت، قد يرد علىّ أحد القراء، بأنها سياسات بنكية معتمدة، وأعقب بأنها سياسة مربحة، طبقا لبيانات الموازنات المنشورة من البنوك فى نهاية العام المالى، والمؤكدة لتحقيق أرباح جيدة.
ولكن، تعالوا ننظر لمقترض آخر، يأمل أن يجد عونا من أحد البنوك، لدعمه فى مشروعه، سيواجه بكم مرهق من الإجراءات البيروقراطية المحبطة، وغالبا سينصرف، ولم تحاول البنوك أن تغير فكرها أو نظرتها للإقراض! فالمهم هو كيفية تعظيم الأرباح دون النظر للأبعاد الاجتماعية.
ومع تأكيد أن دور البنوك تجارى بحت، إلا أنه لحظة إعلان تقديم دعم للمشروعات الصغيرة، دخلت بكامل رغبتها فى إطار مغاير، ليس الهدف منه تعظيم ربحيتها، بقدر تعظيم الدور التنموى للبلد، وهو فكر جيد.
لم نستشعر ثماره حتى الآن، ولا أعرف متى يشعر الناس بعوائد هذه الخطوة الإيجابية، و كنت اتمنى أن تأخذ بعض الصناعات اهتماما لافتا، مثل الغزل والنسيج، فقد كانت لمصر سمعة دولية طيبة فى هذا المجال، وفى وقت ما، كانت الموضة تخرج من بلدنا، بخلاف الصورة الذهنية الطيبة للقطن المصرى.
كل هذه عوامل تعطى لهذه الصناعة بعدا مهما للغاية، تجعل الاهتمام بها بدرجة معقولة، سبيلا لعودة نهضتها مرة أخرى، ومن ثم يكون تقليل الواردات منها مع تعظيم الصادرات أملا يسهل تنفيذه، بما يوفر عملة صعبة نحن فى أشد الاحتياج لها.
لقد خطت مصر خطوات عظيمة فى مجال تنمية البنية الأساسية وغيرها، لا أبالغ حينما أقول إنها تتخطى الانجاز، فى الطرق والكهرباء، والصرف الصحى، والبيئة، والبناء والتشييد، والزراعة، انجازات تحققت فى سنوات قليلة، لولا الاخلاص فى العمل والإصرار على انجازه، لتطلب الأمر وقتا أطول بكثير.
ولكنه الطموح والأمل المسكون فى نفوسنا، منتظرا أن تأتيه قيادة سياسية تطلق له العنان، ليغرد المصريون، عازفين أروع سيمفونيات العمل فى التاريخ الحديث، فما تحقق فى السنوات الثلاث الماضية، ما كان ليحدث، إلا بتوافر إرادة سياسية فولاذية، قررت أن تعيد لمصر نهضتها التى تعثرت، وهذا بشهادة منظمات دولية محايدة، أكدت أن مصر وثبت نحو آفاق متفردة، بنهاية العام الحالى، تحقق بلدنا اكتفاءً ذاتيا فى إنتاج الغاز الطبيعى، وتتحول لدولة مصدرة، ليوفر هذا البند فقط على الموازنة العامة للدولة مليارات الدولارات.
وهناك مجالات أخرى تشهد تقدما غير مسبوق تحتاج لمقالات كثيرة لتوضيح الجهد المبذول فيها، وكذلك أثرها علينا، إلا أن هناك مجالين يحتاج العمل فيهما لفكر متحرر، أولهما التعليم، فلا يعقل أن نظل فى نهاية قائمة الدول المتقدمة تعليمياً حتى الآن! لذلك لابد من تفعيل أسلوب مختلف تماما، ولنبدأ بتحرير العملية التعليمية، بمعنى أننا نحرم وجود الدروس الخصوصية، ومع ذلك نعترف بكياناتها!
فما المانع، لو تركنا للطالب حرية الاختيار بين الذهاب لمراكز الدروس الخصوصية أو المدرسة، وكذلك الاختيار بين الكتب المدرسية أو الخارجية، أعلم أنها فكرة غريبة، ولكنها واقع ملموس، فالطالب يذهب للمدرسة وأيضا لمراكز الدروس الخصوصية، وكذلك يشترى كتب الوزارة، وأيضا الخارجية، أيستطيع أحد إنكار ذلك؟! كل ما نحتاجه هو دراسة الفكرة، ودراسة آثارها التعليمية والاجتماعية، لتحديد مدى وجاهتها من عدمها.
الأمر الثانى، خاص بالصحة، مشروع التأمين الصحى أكثر من رائع، ولكن لن يتم تعميمه على الناس قبل فترة غير قصيرة، فهل هناك بديل يتيح لأهلنا توفير خدمة صحية مقبولة حاليا؟
نعم، يمكن حصر عدد المستشفيات التى تحتاج لإعادة تأهيل صحى، وحساب التكلفة المطلوبة، وكذلك الوقت اللازم، ثم عمل شهادات ولتكن باسم «التأهيل الصحى» على غرار شهادات قناة السويس، لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات، مع إنشاء هيئة لإدارة هذه المنظومة صحيا واقتصاديا، بحيث تضمن توفير الخدمة الطبية المعقولة، مع استثمار جيد لأموال أصحاب الشهادات، تضمن لهم، صرف الفوائد فى موعدها وكذلك صرف أصل الشهادة فى نهاية مدتها. وهكذا لانحتاج لدعم من أى جهة خارجية، وهى فرصة جديدة يستطيع المصريون من خلالها إظهار قدرتهم على حماية صحتهم، لاسيما بعد الانجاز الذى تحقق فى القضاء على فيروس سى.
إنهما فكرتان، قد تجد من يرحب بهما، وفى المقابل من ينتقدهما، ولكنهما أفكار خارج الصندوق، أفكار قابلة للتطوير والتعديل، بغرض مواكبة النهضة التى نشهدها جميعا، وأيضا من أجل الحفاظ عليها وتنميتها، شريطة تحرير العقول.