فرخندة حسن
بحيرات توشكي ... وهل مصيرها الجفاف ؟
أثار اهتمامي بل قلقي الشديد ما صدر من تقارير لوكالة ناسا لأبحاث الفضاء وعلي ما اطلعت عليه من أبحاث علمية ليست بالقليلة تمت علي بحيرات توشكي قام بها عدد غير قليل من العلماء المصريين والأجانب، وكلها تشير إلي احتمال جفاف بحيرات توشكي إذا ما استمر الحال علي ما هو عليه. وجدت أنه يتعين علي تناول المعلومة في المقال الحالي بهدف لفت النظر لضرورة دراسة المشكلة بدقة والعمل علي اتخاذ الإجراءات التي تتصدي لها، فما تم صرفه من مال الشعب علي هذا المشروع الذي كان أحد مشروعات مصر القومية في فترة ما، يحتم علينا عدم تجاهل ما يحدث لهذه البحيرات. إن تجاهل هذه المشكلة بالرغم من صدور العديد من الأبحاث التي أشارت لها وتابعت تطورها منذ أوائل العقد الماضي يعتبر إهداراً لجهود وأموال هي من حق الشعب.
تقع منطقة توشكي في غرب بحيرة ناصر علي بعد حوالي 250 كيلومتراً جنوب مدينة أسوان. تشمل المنطقة عدة منخفضات متصلة ببعضها البعض وتختلف في أحجامها اختلافاً كبيراً. ومشروع توشكي هو مشروع قومي بدأ في نهاية السبعينات من القرن الماضي (1978) بحفر قناة من بحيرة ناصر تسميت قناة السادات في ذلك الوقت اخترقت وادي توشكي لتصل إلي منخفض توشكي. كان الهدف من المشروع هو تصريف المياه الزائدة عن طاقة البحيرة أي لو زاد مستوي سطح البحيرة عن 178 متراً فوق سطح البحر إذا ما حدث وكان الفيضان شديداً وغير عادي في وقت ما وتحويل هذه المياه الزائدة إلي منطقة المنخفضات وذلك لمنع اندفاعها إلي مجري النهر وهو ما يهدد الوادي، هذا بالإضافة إلي إحداث تنمية زراعية وصناعية حول المنخفض والقناة وتعمير المنطقة بأكملها. وهذا بلا شك تفكير سليم تمت دراسته باستفاضة إلا أنه وكما حدث في مشروعات قومية سابقة كان الاهتمام مركزاً علي الإيجابيات وإغفال الآثار السلبية وعدم التحوط لها مثلما حدث في مشروع السد العالي نفسه وغيره من المشروعات التنموية. فهناك لأي مشروع تنموي عدة أبعاد بجانب الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية من أهمها البعد الأخلاقي لهذه التنمية والذي أصبح علماً يدرس في الجامعات.
إن إغفال الآثار السلبية أو بعض منها وعدم أخذها في الاعتبار حيث إنها أهم مقومات باقي الأبعاد وضمان نجاحها. وفي مناقشة لمجلس الشوري - الذي للأسف تم إلغاؤه - في فترة التخطيط لمشروع توشكي أشار عدد من أعضاء المجلس إلي بعض الظواهر التي سوف تؤثر سلباً علي المشروع وقد كان لي شرف المشاركة في هذه المناقشة حيث كنت عضواً بالمجلس في ذلك الوقت. ركزت في مناقشتي علي القناة وأشرت إلي خطورة قوة البخر في هذه المنطقة وكذلك التسرب من خلال الكسور والشقوق الموجودة في الصخور والمعروفة لدينا نحن الجيولوجيين، واقترحت أن يكون تحويل المياه من بحيرة ناصر إلي مفيض توشكي بواسطة تكنولوجيا الأنابيب وليس تكنولوجيا القنوات المكشوفة. لم تؤخذ أي من ملاحظات الأعضاء في الاعتبار.
يشمل مفيض توشكي أربع بحيرات الكبري هي ما يطلق عليها بحيرة توشكي وثلاث بحيرات صغيرة الحجم وكل البحيرات متصلة ببعضها البعض. كان أول فيض وصل مفيض توشكي في عام 1998 واستمر الفيض حتي عام 2001 أي علي مدي حوالي أربعة أعوام. امتلأت المنخفضات كلها الكبيرة والصغيرة وتم تقدير مساحة سطح البحيرات بحوالي 1.500 كيلومتر مربع في ذلك الوقت، وتم حساب حجم مخزون المياه العذبة الذي قدر آنذاك بحوالي 25 بليون متر مكعب.
تقوم الدراسات والبحوث في هذا المجال باستخدام تكنولوجيا الاستشعار عن بعد من خلال برنامج قائم علي الصور التي تلتقطها سفن الفضاء والتي كانت تقوم وكالة ناسا بمدها باستمرار للمؤسسات العلمية ومراكز البحوث في أنحاء العالم بالإضافة إلي إتاحة التقارير والبيانات ذات الصلة.
بعد عام 2002 وبمتابعة مساحات أسطح البحيرات أوضحت الصور أن أسطح البحيرات بدأت في الانكماش بل جفت تماماً إحدي البحيرات الصغيرة. وبحساب مساحة سطح البحيرات تبين أنه انخفض إلي حوالي 937 كيلومتراً مربعاً في عام 2006 وبحساب حجم كمية المياه المخزونة في البحيرات أشارت بعض الأبحاث إلي أنها انخفضت إلي النصف تقريباً. يقوم علماء الهيئة القومية للاستشعار عن بعض في مصر بمتابعة وتقدير كميات المياه المهدرة من البحيرات ونشر أبحاثهم بانتظام وهو ما يتيح المعلومات السليمة للمسئولين وأصحاب القرار.
أشارت جميع الأبحاث أن فقدان هذه الكميات الهائلة من المياه هو نتيجة البخر والتسرب من خلال الكسور والشقوق الأرضية وإن كان العامل الأساسي هو البخر. وهذا هو كان مضمون مناقشات مجلس الشوري في التسعينات. والسؤال المطروح في الوقت الحالي هل سنقف مكتوفي الأيدي أمام ما توقعه العلماء وما نشر في "المجلة الدولية للعلوم" عام 2013 من أنه إذا ما لم تتخذ الإجراءات للحفاظ علي الثروة المائية في بحيرات توشكي، فمآلها الاختفاء بعد عدة سنين. والآن ونحن بصدد تنفيذ العديد من المشروعات القومية العملاقة التي يعلَّق عليها الآمال في مستقبل أكثر إشراقاً لمصرنا الغالية ... ألا يجب علينا أن نعي الدروس المستفادة من خطورة التركيز علي الآثار الإيجابية ووضع استراتيجية للتعامل مع الآثار السلبية المتوقعة ووضع الخطط التي تتصدي لها والتحوط لها بالتقليل من أضرارها أو تحول دون وقوعها.