الأهرام
بهاء جاهين
لمحات من عالم إيشيجورو(3)
فى نهاية المقالة السابقة فى معرض حديثنا عن رواية كازوو إيشيجورو الأخيرة، التى لم تُترجم بعد فى حدود علمي، «المارد المدفون» توقفنا عند إحدى نقاط تقاطع التاريخ مع الحدوتة الشعبية فى موروث إنجلترا التاريخى والأسطوري؛ بالتحديد: شخصية سير جاوين التى تروى السيرة الشعبية ذات الأصل التاريخي، عن الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة، أن سير جاوين كان أحد هؤلاء الفرسان، إضافة لكونه ابن أخ الملك. ووصفنا فى السطور الأخيرة للمقالة ما آل إليه جاوين من شيخوخة، طبقاً للتصوير الهزلى والحزين معاً بريشة إيشيجورو، للفارس المنتمى للماضى المجيد السحيق. فالكاتب يسخر كما سخر سرفانتس من قبله فى دون كيشوت من قيم الفروسية؛ إلا أن إيشيجورو يركز على مصيرها المؤسف، فى عالم السياسة الذى يستند إلى حقائق القوة وحدها. فجاوين العجوز نكتشف فى آخر الرواية أنه صار سياسياً ميكيافيللياً قادراً على القيام بمناورات ومؤامرات تبتعد عن أخلاق الفرسان. مثلاً، أنه وهو المكلف كما يدعى من عمه الراحل آرثر بقتل كويريج أنثى التنين- نكتشف بالعكس أنه حليفها وحاميها بأمر من الملك الحالي. إلا أننا لا ندينه تماماً؛ لأن النسيان - طبقاً لمنظور الرواية هو نعمة بقدر ما هو نقمة. فعلى المستوى القومي، بعد أن قام المحارب الساكسونى «ويستان» بقتل أنثى التنين، انقشع ضباب النسيان فصار الجو مهيأ لانتقام القرى الساكسونية التى تستوطن انجلترا بدعم من جيش ملك ساكسونى يأتى من الشرق من مذابح آرثر ملك السكان الأصليين من البريطان ضدهم، بدعوى أن هذه المذابح سوف تحسم تفوق البريطان على الساكسون فى انجلترا لعقود طويلة فيحل السلام الوئام! وهو ما حدث بالفعل، خاصة فى ظل أنفاس كويريج الضبابية.

ذلك على المستوى العام من الحكاية؛ أما حكاية الزوجين العجوزين آكسل وبياتريس فتصور نعمة النسيان من منظور تاريخهما الشخصي. فابنهما، الذى تتفتح أوراق وردة الحكاية فى ظل رحيلهما إلى القرية التى يعتقدان تحت تأثير ضباب النسيان أنه يقيم فيها، ابنهما هذا يتضح أنه هجرهما بعد شجار عنيف مع أبيه، وبعد اكتشافه أن أمه تخون أباه مع رجل آخر. كما نكتشف أن ذلك الابن مات فى الغربة، وأن آكسل رفض أن يزور قبره، كما حرم ذلك على بياتريس. كل ذلك كان الزوجان العجوزان قد نسياه تحت خيمة النسيان الرحيمة، وتذكراه الآن بعد هلاك أنثى التنين. تنتهى الرواية بكل هذه الحقائق القاسية، وبتهيؤ المسرح السياسى للغزو والاجتياح الساكسوني. إلا أن الحب، الذى نما واختمر طوال عشرات السنين فى قلبى الزوجين العجوزين، صَمَد إزاء الحقائق المخزية التى كشفها الصحو المفاجئ للذاكرة؛ وتنتهى السطور الأخيرة من «المارد المدفون» بانتصار الحب حتى فى ظل أخطار الفراق والموت والمذابح. إن المارد المدفون هو الذاكرة، وحقائقها التى تدفنها رحمةً من الله موهبةُ النسيان. لكنّ الحب أقوى برقته وحنانه من قسوة الذكريات وأظافرها الخامشة. وبعد، لم أقرا لإيشيجورو إلا ثلاث روايات: بقايا اليوم أبداً لا تدعنى أذهب والمارد المدفون إلا أن هذه الروايات الثلاث تكفى لتكوين انطباعين عن أعماله: أولهما أنه دائماً ما ينتصر للحب فى النهاية، وثانيهما أنه يحرص فى كل عمل جديد أن يكون مختلفاً عما سبقه، وعما كُتب فى مجال الرواية بشكل عام. ففى هذه الروايات الثلاث ينتقل إيشيجورو من الواقعية التسجيلية إلى الفانتازيا العلمية، ثم إلى مزيج من التاريخ والخرافة الشعبية. وفى كل هذه الأنواع الأدبية يُبدع ويترك بصمته الفريدة. ذلك الإصرار على أن يأتى فى كل رواية بفتح جديد وبتطويع جديد لأشكال أدبية مطروقة لرؤيته الخاصة وأسلوبه، هو فى ظنى أحد أهم أسباب تتويج إيشيجورو بنوبل هذا العام.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف