الأخبار
رجائى عطية
مدارات ثقافة العمل والإنتاج
تواجه مصر حروبًا ضارية، تأتيها من الخارج ومن الداخل، وتواجه ضربات الإرهاب الذي يسعي لتدمير البلاد، فضلاً عن متاعب اقتصادية متجذرة، تراكمت علي مر السنين بسبب سياسات فاشلة، وبسبب اللجوء إلي المسكنات لا العلاج، فأخذت الأزمة تشتد حتي هددت الدولة بالإفلاس، في الوقت الذي تؤدي فيه هذه الحروب إلي فقدان معظم الدخل القومي من السياحة، بحيث لم يعد لمصر مورد ثابت سوي ما تدره قناة السويس، والعمل والإنتاج !
وظني أن ما تحقق حتي الآن، وهوكثير، أعجوبة إزاء ظاهرة أعيتنا هي أننا لا نعمل، ولا نريد أن نعمل .. وهذه آفة الآفات لأنه لا دخل بغير إنتاج، ولا إنتاج بغير عمل، فإذا تراجعت قيم وثقافة العمل، توقفت عجلة الإنتاج، وإذا تراجع الإنتاج، تراجع الدخل القومي، ومع ذلك نريد أن نكون أثري الناس وأقواهم وأرضاهم، ونريد من الحكومة أن تعمل وأن تدر المطلوب للإنفاق مكتفين بموقف المتفرج، الذي حتي لا يمن بالتشجيع، وإنما يغري البعض من المخادعين أوالمخدوعين، بمهاجمة كل شيء، ونقد كل سياسة !
غياب ثقافة العمل والراحة أيضًا !
ظني أن ما نعانيه، مرده إلي غياب ثقافة العمل، وثقافة الراحة أيضًا، فالراحة في مواضعها الصحيحة جزءٌ لا يتجزأ من العمل .. وفارق بين هذه الراحة وبين هواية ترك مواقع العمل للتسكع في الطرقات .. في عز أوقات العمل تري شوارع العاصمة وغيرها مكتظة عن آخرها، وتري العاملين وقد تركوا أعمالهم في المصالح والمصانع والورش والمرافق، وانطلقوا إلي الفتارين في الطرقات، وإلي المتاجر ودور السينما، وإلي المقاهي والمنتديات!
ما نراه يموج في حياتنا خلط وتخليط ينبئان عن غشاوة عمياء، وعن فوضي ضريرة تراجعت بقيم العمل وهبطت بجديته ومستواه، وبعوائده وإنتاجه، بينما لم نعد نجيد إلاَّ الطلب والشكوي .. الكلٌّ يطلب من الكل، ولا أحد من المطالبِيِن يعطي، والكلٌّ يشكومن الكل، ولا أحد من الشاكين يجيب أويلبي حاجة من يشكومنه !
دور الإدارة
ربما كانت الرغبة في التحلل أوالتخفف من الجهد والعمل والالتزام، ومن الجد والنصب والعناء ـ ربما كانت آفة كامنة في كثير من الناس، ولكن النظام والإدارة، والضبط والربط ـ هم أساس ومعقد حمل المتكاسلين علي قيم الجد والالتزام . ومن المحال أن يقتنع هؤلاء بهذه القيم أويرضخوا لها، بينما يرخي رؤساء العمل القياد للعاملين لترك مواقع أعمالهم إلي التسكع في الشوارع والطرقات، ومن المحال أن يقتنع هؤلاء بجدوي العمل ووجوب احترامه، بينما الإدارة لا تحترم قيمه، وتفرط في منح الأجازات الطويلة التي تتعطل فيها كل المرافق في البلاد، ولا نظير لها في أي بلد من البلدان !
تبديد الوقت والطاقة !
تستطيع أن تعرف الفرد، وأن تعرف المجتمع، من مقدار احترامه أوإهماله أوتبديده للوقت، فالوقت يقف علي رأس مجموعة القيم التي ترتد إليها كل أوجه النشاط والعمل والإنتاج .. فكل ناتج هوحصاد عمل مبذول خلال وقت .. وإهلاك الوقت هوتبديد للطاقات والقوي والثروة ..
الطاقات المعطلة تبديد حقيقي للثروة، لذلك تجد شركات الطيران تحسب تشغيل أسطول طائـراتها بالساعة والدقيقة، ولا تترك طائرة واحدة في حالة توقف عن الطيران، فساعات التوقف بدد وإهلاك، وحرمان من عائد التشغيل الذي هوقوام الطيران . ما يصدق علي الطائرة، يصدق علي كل آلة منتجة، ويصدق أكثر علي الإنسان، فهوالأصل الذي تتجمع فيه كل القوي والطاقات والإبداعات، وإضاعة وقته هي إضاعة وتبديد لطاقته وقدراته وعطائه، وإهدار غير مرئي للياقته الروحية والنفسية والبدنية، وإعدام لإحساسه بقيمته وبقيمة ما يقدمه أويمكن أن يقدمه، وإشاعة لكل سلبيات القعود والخبووالتعطل والبلادة، وهوما ينعكس بالحتم والضرورة علي مجمل الأداء العام في أي مرفق من المرافق .
الوقت والهالك القومي
لست أعرف علي التحقيق من صاحب المثل القائل : » الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك ! »‬.. ولكني أدرك منه أن الوقت إمّا لك وإمّا عليك .. إن قطعته بما تريد، فهولك .. وإن لم تقطعه بما يجب فهوعليك كحد السيف، لأن انصرام الوقت جار ماض شئنا أم أبينا، حاد في انصرامه نافذ كالسيف .. يستطيع الآدمي أن يوقف ما يشاء من الأشياء المتحركة .. يستطيع أن يوقف القطار والسيارة والطائرة، بل ويستطيع أن يوقف »‬ الساعة » حاسبة الوقت ذاتها، ولكنه لا يستطيع أن يوقف حركة ومضي وانصرام الوقت حتي وإن أوقف ساعات الدنيا بأسرها !!
والتفات الآدمي »‬ الناضج » إلي الوقت، التفات يسبق تقدم العمر، لأنه حاصل فهم ووعي مدرك لأهمية الوقت في تحقيق مراد الآدمي وإنجاز آماله ومقاصده وإدراك غاياته 0 إنتاج أومنجزات الآدمي، هي حصاد »‬ عمل »، هذا العمل مهما كان معدل البذل والاجتهاد فيه ـ لا غناء له عن »‬ الوقت » .. »‬ الوقت » جزء أساسي في المعادلة، لذلك كان العمل فرعًا علي الوقت، ومعطوفًا في الحساب عليه 0 في لغة العمل أن »‬ الساعة » هي »‬ ساعة عمل » .. والعمل هو»‬ حصاد » محسوب بساعته أوساعاته .. الوقت والعمل وجهان لواقع واحد .
وقت »‬ المجموع » هوحاصل جمع »‬ أوقات » أفراده .. بل إن المجتمعات تكاد تكون في تعاملها مع الوقت ترجمة عن حال أفرادها .. نضجًا أومراهقة، فهما أوبلادة، جدًا أوعبثًا، عناية أوتفاهة، حرصًا أوتبديدًا .. الوقت في حياة المجتمعات هومقياس لدرجة وعيها ونضجها وتحضرها ـ مثلما هوفي حياة الفرد .. وآفة هلاك الوقت لدينا هي في الأساس آفة فردية، نابعة في الأصل من الناس .. ومساحة الهالك المبدد من أوقاتنا مساحة مخيفة، لا يبدد الواحد فينا »‬ وقته » الشخصي فقط، وإنما يبدد ويغتال ويتغوَّل علي أوقات الغير ووقت الأمة بأسرها !
أليس غريبًا أن يتراخي إحساسنا بالوقت إلي حد أن تصل الأجازات في بعض الأعياد أوالمناسبات إلي أسبوع كامل .. ونتفنن ـ وتجارينا الإدارة ! ـ فـي »‬ نفحة » يوم زيادة في الأجازة الطويلة أصلاً عوضًا عن يوم »‬ الجمعة » إذا صادف بدايتها، أووسطها أحيانًا .. من الغريب أننا قد تواضعنا جميعًا علي هذا مع أن هذه الأعياد مردها إلي عادات فاطمية، ومع أن »‬ هالك » الوقت الواسع الذي نبدده فيها لا يتفق بتاتًا مع تطلعاتنا وآمالنا التي لا سبيل لتحقيقها إلاّ بزيادة الإنتاج الذي هوحصاد الوقت الذي نبدده بلا عائد . إن هذه الإجازات الطويلة العجيبة ليـس حسبهـا أنهـا »‬ هالك » من الإنتاج الوطني، وإنما هي ترسخ في وعينا تفاهة الوقت !!!
ليس أسوأ من تبديد الوقت واسترخاصه !.. حين نسترخص الوقت، يرخص كل شيء هام أوذي قيمة في حياتنا .. فالوقت علي رأس قائمة القيم .. حين يرخص الوقت، يضمر العمل، وحين يضمر العمل ينعدم الإنتاج !!
إن استرخاص الوقت الذي يرتد إليه كل شيء، قد طبع في وعينا آفة استرخاص كل ما عداه، وزيادة »‬ الهالك » »‬ الفاقد » في كثير من عناصر ومصادر ثروتنا ! ..
أخطر الأخطار، أن يزيد الفاقد الهالك علي الوقت المستخدم .. هذا تبديد يأكل الأخضر واليابس، لا نجاة منه ما لم ندرك أن عناصر ومصادر ثرواتنا القومية هي لكل واحد منا .. وأن الحفاظ عليها هوحفاظ علي أموالنا الخاصة وأكثر .. ما لم نعد قيمة الوقت إلي وعينا .. ما لم نتحاش كل ما يسهم في الوعي وفي اللاوعي في عدم التفاتنا إلي أهمية الوقت وأنه صانع كل شيء !!
إن مقدار »‬ الهالك » القومي يأكل الأخضر واليابس، لا خلاص منه ما لم يستيقظ وعي الناس ـ ليتعانق مع جهود واجبه ـ الآن قبل الغد، لوقف هذا النزيف الذي يستهلك حصاد ما نسعي به لصنع الحياة في ربوعنا !
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف