المساء
محمد جبريل
سعد أبو الرضا.. وبساطة السرد
أصارحك بأني كنت أسعد الناس حين كتبت مجلة ثقافية عن الروائي الذي فاز بجائزة النقد. كنت قد حصلت علي جائزة الدولة بكتابي "مصر في قصص كتابها المعاصرين" الذي بدأته مشروعاً للقراءة. ثم وافقت علي نصيحة يوسف الشاروني أن أقدمه إلي الجائزة. وفزت بالجائزة فعلاً. لكنني ظللت حريصاً علي الوقوف خارج أسوار النقد. ورفض دور الذباب الذي يعوق الخيل عن أداء عملها. ولعلي أشير إلي قول ريلكه: "لا يوجد شيء أردأ من كلمات النقد. فإنها لا تقود إلا لسوء تفاهم ناجح بدرجة أو بأخري". قوام الكتاب بأجزائه الستة إبداعات تغطي الفترة منذ إرهاصات الثورة العرابية إلي قيام ثورة يوليو.
لعل ملاحظتي علي أعمال الأديب الكبير الراحل عبدالحميد السحار. هي "الأسرية" التي عبرت عنها روايات: في قافلة الزمان. الشارع الجديد. أم العروسة. الحفيد. السهول البيض. وغيرها. وجدت في ذلك الملمح ـ باقترابي الإنساني من السحار ـ تأكيداً علي أن المبدع الحقيقي هو الذي لا يفصل بين الفكر والعمل. بين الوجود والفعل. بين الفن والتجربة. بحيث تنعكس ـ في إبداعاته ـ قراءاته وخبراته وخبرات الآخرين. ظني أن التواصل الإنساني بين سعد أبو الرضا وبيني. يدفعني إلي تأكيد المعني نفسه. وعلي تحقق الثنائيات المتقابلة في إبداعاته. فليس ثمة أقنعة فنية. إنما هو وجه أحد. واضح القسمات. لفنان مهموم بقضايا مجتمعه. وبقضايا الإنسانية جميعاً. ألفته في تعدد أنشطة "أبو الرضا": غلبة ما يمكن تسميته بالمحتوي الإنساني علي إبداعاته. مشاركاته الإيجابية في الملتقيات العربية والعالمية. اختياره لعنوانات الكثير من الرسائل الجامعية التي أشرف عليها. يقينه أن أسس الرواية ـ والقصة القصيرة بالطبع ـ قصة. حكاية. حدوتة. الحدوتة وتد في السرد القصصي. ومحاولات التحرر من الحدوتة تنتهي إلي ضرورتها.
توصف الرواية بأنها مدينة يحيا فيها الكثير من الأشخاص. لكل منهم عمله ومشكلاته وتطلعاته. أما القصة القصيرة. فهي بيت يضم عدداً محدوداً. ومحدداً. من الشخصيات. يرتبطون بصلات قوية وحميمة. القصة القصيرة ـ في أهم تعريفاته ـ هي التي تتركز فيها حياة بأكملها. وإن أخذت في زمن السرد بضع دقائق. ليس معني القصة القصيرة إنها "قصيرة الزمن". أي أنها تمتد في مساحة محدودة ومحددة. فقد تستغرق لحظة. أو بضعة أعوام. أو حياة إلي نهايتها. وهذا ما تبين عنه قصص سعد أبوالرضا. تتراوح قصص المجموعة من نصف صفحة إلي ثلاث صفحات. وتبين عن العديد من الملامح والقسمات التي تشكل ـ في مجموعها ـ عالماً إبداعياً يشغله التخلق في صورته الصحيحة. الفنان يلتقط اللحظة العادية جداً. البسيطة جداً. يعبرها القاريء فلا تستوقفه هي لحظات من حياتنا اليومية. لكنه يجيد التقاطها. فتصبح في قلمه كالتكوين في لوحة الفنان التشكيلي. أو المقتطع في عدسة المصور الفوتوغرافي. يهب لنا كل ما تشتمل عليه من ملامح وتفصيلات دقيقة. فتسري فيها حياة جديدة. متجددة. صورة نراها. فنعبرها. لا تستوقفنا. ولا تثير فينا التأمل. لكنها تحتلف ـ في تناول الفنان ـ عن تلك الصورة التي اعتدناها في حياتنا العادية. إنها ليست مجرد لحظة استاتيكية. لحظة متكررة. لكنها تختلف ـ من خلال التناول ـ عن بقية اللحظات في حياة شخصياتها. وفي حياتنا بعامة.
العلاقات الإنسانية ـ والعلاقات الأسرية بخاصة ـ هي محور قصص المجموعة. مفرداتها: الزوجة. الزوج. الأم. الأب. الأبناء. المحبون. المتصلون بحياتهم بداية من الأقارب. مروراً بالأصدقاء والجيران وزملاء العمل. والعلاقات الثابتة والطارئة. ولأن القضية الفلسطينية هي الآن خبزنا وغموسنا وهمنا المشترك. فإن تأثيراتها تبين في العديد من قصص المجموعة.
هدف العمل الأدبي هو إنتاج الانفعال الجمالي. أنت تستطيع أن تتبين هذا الهدف. وأن تلامسه. في هذه المجموعة من خلال اتصال لحظات الصدق الإنساني. في بانورامية متكاملة. البساطة هي السمة الواضحة. إنها تعتمد علي السرد المباشر الذي ينأي عن الغموض والتلغيز. ثمة لوحات. في داخلها أحداث وشخصيات. وفيها الدلالة. أو حتي الانطباع الذي تهبه متلقيها.. لكن التأثير الذي تهبه يتحقق بالعفوية نفسها الذي تتسم به القصة.
القصص تنطلق من البساطة. دون التمطي في ترهلات أو نتوءات. أو اهمال فنية القصة في أحدث معطياتها. إلي حد ملامسة الخيال العلمي. الفنان تأمل الحدث. ويعيد اكتشافه. يجيد عزل المواقف المحملة بالأفكار المجردة أو الوعظية. وتخليص العلم الإبداعي من شوائب الثرثرة والترهل. فالجملة مكثفة. موحية. ذلك لأن الجمع بين الفن والوعظ ـ علي حد تعبير تشخوف ـ أمر غاية في الصعوبة. بل هو مستحيل لأسباب فنية.
بصرف النظر عن طبيعة المقولة التي تحملها أو الفنية التي يصوغ بها قصته. فإن علي الفنان أن يكتب قصة جيدة.. هذه هي بطاقة التعارف التي يقبل بها القاريء. عدا ذلك. فلن تجتذب القاريء أو تبهره أو تدفعه إلي المتابعة. حيل فنية من أي نوع كتداخل الأجناس الأدبية وغيرها. الفنان هو الذي يستطيع أن يجعل من أي شيء قيمة إبداعية. حتي اللحظة العادية تتحول ـ في إبداع الكابت الفنان الذي يزاوج بين الوعي بالهم السياسي والحس الفني ـ إلي سرد ثري وخصب. إنه عالم حقيقي يستند إلي دعامات من القراءة والخبرة والممارسة المبدع لا يتكيء علي إبداعات الآخرين. ولا يمنح منها. ولا يحاول المحاكاة ولا التقليد. إنما هو يحاول التعبير عن خصوصية في التجربة المضمونية والفنية في آن واحد. أذكر بقول جارثيا ماركيث: إن القصة القصيرة إما أن تكون أو لا تكون. والمعني ينسحب ـ بالطبع ـ علي الفن بعامة. إما أن يكون فناً أو لا يكون.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف