الأهرام
محمد سلماوى
صلاح عيسى وإبراهيم نافع
غيب الموت فى أسبوع واحد قامتين صحفيتين كبيرين جمعت بينهما قواسم مشتركة وفرقت بينهما قواسم أخرى، أو فلنقل جمعت بينهما الصحافة وفرقت بينهما السياسة، وحين أقول إن الصحافة جمعت بين إبراهيم نافع وصلاح عيسى فلا أقصد فقط أن كلا منهما كان علامة مميزة فى هذه المهنة التى دخلاها كل من باب مختلف عن الآخر، وإنما أقصد أيضا أن ايا منهما لم يكتف بالنجاح المهنى الذى حققه بقلمه، وإنما كرسا الكثير من وقتهما لخدمة مهنة الصحافة والعاملين بها، وذلك عن طريق العمل النقابى الذى كان كل منهما علامة بارزة فيه هو الآخر.

ورغم أن إبراهيم نافع تخرج فى كلية الحقوق إلا أنه دخل الصحافة من باب الاقتصاد الذى اهتم به وتخصص فى تغطية أخباره من بداياته الصحفية بجريدة «الجمهورية» وهو ما لفت نظر الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل فالتقطه ليلحقه بكتيبته الصحفية بجريدة «الأهرام» أما صلاح عيسى الذى عمل هو الآخر فى «الجمهورية» فقد كان موقفه السياسى هو البوصلة التى اهتدى بها من بداية عمله الصحفى وحتى أيامه الأخيرة، وهو ما أدى به الى الملاحقة الأمنية التى لازمته خلال فترة كبيرة من حياته وتمكنت من إيداعه السجن الذى حظى آنذاك بأعداد كبيرة من أبناء المهنة.

وقد كان صلاح عيسى صحفيا متميزا، له قلم مقتدر يغوص به فى الأعماق، ولا يكتفى بالتغطية الخارجية للموضوعات، فكان القلم يتحول فى يده الى مبضع جراح يشرح به جسد هذه الأمة ليصل الى قلب الداء، كما كان يغوص بنفس القدر فى التاريخ ليصل الى جذور القضية التى يعالجها، وقد تخطى ولعه بالتاريخ حدود مقالاته الصحفية ليصدر عددا من الكتب التاريخية المميزة والتى تحتل مكانا مهما فى مكتبة المراجع العربية، كان من بينها كتاب مهم عن تاريخ الدساتير المصرية أصبح مرجعا غير رسمى لنا أثناء كتابة الدستور الحالى، وكان من بينها كتابه الشهير عن ريا وسكينة الذى يعتبر أحد أهم كتب التاريخ الاجتماعى لمصر كما كانت فى أواسط القرن الماضى. وقد توصل فى سنواته الأخيرة إلى اُسلوب مميز فى الكتابة الصحفية جمع فيه نبرة السخرية وخفة الظل بعمق الفكر وجرأة الموقف.

وقد تدرج صلاح عيسى فى المواقع الصحفية حتى وصل الى موقع رئيس التحرير، وتأسست على يديه جريدة «القاهرة» كمثال يحتذى للصحافة الثقافية، كما أمضى سنوات مهمة من عمره عضوا بمجلس نقابة الصحفيين كان له خلالها إسهام كبير فى حماية الصحافة من التدخلات السياسية حتى صار مرجعا حيا لجميع القوانين الخاصة بالصحافة، وقد تزاملنا فى الدورات الأخيرة للمجلس الأعلى للصحافة حين كنا بعد الثورة وكيلين للمجلس، والشهادة لله أن صلاح رحمه الله كان مرجعا لنا جميعا فى كل ما يتعلق بتاريخ الصحافة وقوانينها.

وقد كان الجانب النقابى أحد الجوانب المشتركة فى تاريخ كل من صلاح عيسى وإبراهيم نافع، فقد كان إبراهيم نافع أحد أهم النقباء الذين عرفتهم النقابة فى تاريخها، وقد شرفت بالعمل معه دورة كاملة خلال سنوات عضويتى بمجلس النقابة والتى استمرت من رئاسة المرحوم صلاح جلال الى رئاسة المرحوم إبراهيم نافع.

هذا ينقلنا الى واحدة من الصفحات الناصعة فى حياة إبراهيم نافع، تلك التى كان فيها نقيبا للصحفيين منفتحا على كل أعضاء تلك النقابة العريقة التى يزيد عمرها علي 75 عاما، بصرف النظر عن انتماءاتهم الصحفية أو السياسية. ولقد كان إبراهيم نافع فى رحلة علاجية بالولايات المتحدة حين ثارت مشكلة القانون 93 لسنة 1995 والذى أرادت به الدولة إحكام سيطرتها على الصحافة بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات والإجراءات الجنائية لتغليظ العقوبات فى جرائم النشر، وإلغاء ضمانات عدم الحبس الاحتياطى للصحفيين، وثارت ثائرة الصحفيين من جميع الاتجاهات، وكان أحد الصحفيين قد ناشد الرئيس مبارك فى لقاء عام ألا يصدق على القانون الذى أعدته الحكومة، لكن الرئيس نهره قائلا بالحرف الواحد: إحنا مش بنبيع ترمس! ثم صدمنا بالقول بأنه صدق بالفعل على القانون وأن القانون نشر صباح ذلك اليوم فى الجريدة الرسمية وأصبح ساريا من ذلك التاريخ، لكن هذا لم يغلق الموضوع بل أجج الصراع بين النظام والجماعة الصحفية، فأضرب بعض الصحفيين وإحتجبت بعض الصحف، وعاد إبراهيم نافع من الخارج ليخوض واحدة من أهم المعارك فى تاريخنا الصحفى الحديث، من موقعه ليس دفاعا عن الحكومة وإنما مدافع عن حرية الصحافة وعن كرامة الصحفى وأمنه، مما أدى فى النهاية إلى إلغاء القانون.

وإذا كان إبراهيم نافع قد بدأ حياته الصحفية محررا اقتصاديا فذلك كان لولعه الخاص بالإدارة والإقتصاد، ولم يكن من قبيل المصادفة أن أُعير فى بداية السبعينيات للعمل بالبنك الدولى فى واشنطن، وقد برع فى فن الإدارة حين رأس مؤسسة الأهرام التى توسعت فى عهده وتعاظم نشاطها الاقتصادى بدرجة غير مسبوقة حتى صارت واحدة من كبري المؤسسات الاقتصادية فى البلاد، وكما تعاملت مع إبراهيم نافع الصحفى وإبراهيم نافع النقابى، فقد تعاملت عن قرب مع ابراهيم نافع الإقتصادى واقتربت من فكره الإدارى بشكل شبه يومى، وذلك حين طلب من مجموعة من الصحفيين العاملين فى الأهرام كنت أحدهم التخطيط لاصدار أول صحيفة تصدر عن المؤسسة بلغة أجنبية وهى «الأهرام ويكلى» الصادرة بالانجليزية والتى رأس تحريرها الزميل القدير الراحل حسنى جندى وكنت مديرا لتحريرها، وبعد النجاح الذى حققته «الويكلى» طلب منى إبراهيم نافع إصدار جريدة ثانية باللغة الفرنسية هى «الأهرام إبدو» التى شرفت بتأسيسها مع فريق العاملين بها وظللت رئيسا لتحريرها 16 عاما الى أن قدمت استقالتى عام 2010 افساحا للطريق أمام جيل ثان من الزملاء الصحفيين. والحقيقة أن طوال تلك الفترة كان إبراهيم نافع مثالا عمليا لنظريات علم الإدارة الحديثة التى تعتمد على تفويض السلطات والمحاسبة، ولم يكن يتدخل قط فى توجيه السياسة التحريرية للجريدة التى حرصت على أن تكون معبرة عن وجهة النظر المصرية وليس عن وجهة النظر الحكومية، ووضعنا خطوطا فاصلة بين الإثنين اقتنع إبراهيم نافع بها، ولم يكن يراجعنى فيها.

رحم الله الأستاذ ابراهيم نافع، ورحم الأستاذ صلاح عيسى، وجزاهما خيرا عن كل ما قدماه للصحافة وللصحفيين ولمصر الحبيبة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف