الأمن فى البحر الأحمر قضية جديدة ذات أسس قديمة، ويمكن القول أيضاً إنها قديمة فرضت نفسها فى بيئة جديدة، دولياً وإقليمياً، على نحو اختلطت فيه المعايير وغابت عنه معانى وقيم الرابطة العربية، وحلت محلها معايير المصالح الفردية والروابط المتشابكة ذات الاتجاهات المختلفة والمتعارضة فى آن واحد، ولذا أصبحت التهديدات تأتى من بعض الأشقاء قبل الأعداء.
الذين تابعوا قضية أمن البحر الأحمر فى العقود الأربعة الماضية يذكرون أنه فى أعقاب حرب أكتوبر 1973، ونجاح القوات البحرية المصرية، بالتعاون مع اليمن الديمقراطى آنذاك، فى إغلاق باب المندب، أثناء العمليات العسكرية وحتى نهاية العام أمام السفن الإسرائيلية والمتجهة إليها، أياً كانت جنسيتها، طُرحت قضية عروبة البحر الأحمر، واعتباره بحيرة عربية، بما يعنى تحكم الدول العربية المشاطئة له فى كل ما يتعلق بأمنه وحرية الملاحة فيه، واستثمار الثروات التى ترقد فى قاعه، سواء البترول أو المعادن الثابت وجودها فى أعماقه. ويلاحظ هنا أن العلاقات بين الدول العربية المشاطئة للبحر الأحمر وهى مصر والسعودية والسودان واليمن والأردن كانت إيجابية وتتّسم بالتعاون البينى، كما أن مصر المنتصرة فى الحرب كانت منفتحة على كل أشقائها، خصوصاً أن هذا الانتصار العسكرى صاحبته مظاهر تضامن عربى كبرى، مما أوجد شعوراً عربياً عاماً بضرورة البناء على هذا النوع من التعاون العالى المستوى، وبالتالى وُجد أساس قوى لمثل تلك الدعوة بإعلان البحر الأحمر بحيرة عربية.
لكن الدعوة اصطدمت برفض الدول غير العربية المشاطئة للبحر، لا سيما إثيوبيا، ولم تكن إريتريا قد حصلت على استقلالها بعد، وكذلك فعلت إسرائيل التى تعتبر نفسها مشاطئة للبحر، ولو عن بُعد. وكان طبيعياً أن ترفض القوى الدولية الكبرى مثل هذه الدعوة، لأنها تعتبر نفسها المسئولة مباشرة عن أمن البحر الأحمر، وكل بحار ومحيطات العالم. لذلك لم تستمر كثيراً الدعوة إلى تعريب البحر الأحمر. وظلت المعايير الدولية المتعلقة بحرية الملاحة فى البحار المفتوحة والممرات البحرية ذات الصلة المباشرة بالتجارة الدولية هى السائدة، وظل التمسّك بكون البحر الأحمر بحراً مفتوحاً هو القاسم المشترك بين العالم بأسره. وفى ظل هذه البيئة الدولية، لم يكن أمام الأطراف العربية سوى التنسيق السياسى بالمعنى العام، واتّخاذ كل دولة ما يحمى شواطئها ومياهها الإقليمية، وفقاً لقدراتها الذاتية.
أثناء الحرب العراقية - الإيرانية التى استمرت قرابة عقد ما بين 1981 حتى 1989، وتحديداً خلال عام 1984 بدأ ما يُعرف بحرب الناقلات، حيث استهدف الجيش العراقى ناقلات النفط الإيرانية فى مياه الخليج للضغط على طهران للقبول بوقف الحرب، واستمرت تلك الحرب عدة سنوات، وأثناءها، لا سيما نهاية 1986 ومطلع 1987، وفى إطار رد إيران على المساندة الخليجية للعراق، قامت البحرية الإيرانية سراً بنشر ألغام بحرية فى الممرات الملاحية فى البحر الأحمر، الأمر الذى استنفر العالم كله لإنقاذ تلك الممرات التى تنقل نحو 12% من تجارة العالم ما بين آسيا وأوروبا. وفى تلك الأثناء قامت البحرية المصرية فى حدود قدراتها المتوافرة آنذاك بعمل دوريات للكشف عن تلك الألغام وتأمين مرور السفن التجارية، بدءاً من خليج السويس، كما قامت البحرية الأمريكية بدور مماثل، وعلى نطاق أوسع، كما شاركت قطع بحرية روسية بمستوى أقل، الأمر الذى أثار مرة أخرى قضية من يحمى أمن هذا البحر الحيوى والمهم للعالم بأسره؟. ويلاحظ هنا أن تعاوناً عملياتياً تم بالفعل بين البحرية المصرية والسعودية والأمريكية، وبما جسّد نوعاً من المسئولية المشتركة بين أكبر الدول المشاطئة للبحر وأقوى الدول فى العالم، التى تمتلك قوات بحرية قادرة على الإبحار والقيام بعمليات، سواء إنسانية أو حربية فى بحار العالم كله.
الأمر ذاته حدث، لكن على نطاق واسع فى الفترة ما بعد 2004 أثناء ما يُعرف بتهديدات القراصنة الصوماليين للسفن التجارية، سواء التى كانت تتّجه إلى باب المندب ثم البحر الأحمر، أو تُبحر بالقرب من الشواطئ الشرقية الجنوبية للقارة الأفريقية فى اتجاه رأس الرجاء الصالح أقصى الجنوب الأفريقى. ففى مواجهة القرصنة الصومالية ذات الطابع البدائى، لكن الخطير أيضاً، أنه تم تشكيل قوة عمليات بين أكثر من بحرية دولية وأوروبية، وجاءت سفن حربية من أكثر من بلد، وأصبحت منطقة بحر العرب المحاذية للشواطئ الجنوبية لليمن والشواطئ الشرقية الجنوبية لأفريقيا مسرحاً لعدد كبير من القطع البحرية الدولية. مصر بدورها التى كانت تركيزها الأكبر على حماية باب المندب، ومن ثم تأمين قناة السويس، قامت أيضاً بتسيير دوريات بحرية منفردة وبالتعاون مع بحريات الدعم الدولية حسب الحاجة.
وبعد احتواء تهديدات القراصنة الصوماليين، بدأ اتجاه لدى القوى البحرية الكبرى الدولية والإقليمية فى الاهتمام بالوجود المستمر فى تلك المنطقة المهمة لحرية الملاحة الدولية، ومن هنا تكثّفت مساعى بناء قواعد عسكرية فى جيبوتى، جنباً إلى جنب القاعدة الفرنسية الشهيرة هناك، وفى إريتريا والصومال، بتنا نرى قواعد أمريكية وصينية وإيرانية وإسرائيلية وإماراتية وتركية وأخيراً روسية فى الطريق. وهنا يمكن أن نتساءل: هل يمكن لبلد ما يمتلك قاعدة بحرية صغيرة أو حتى كبيرة نسبياً فى الصومال أو جيبوتى أو إريتريا أو غيرها أن يفكر فى وقف الملاحة الدولية مثلاً عند باب المندب أو فى البحر الأحمر؟ لقد ذهب كل هؤلاء إلى حماية مصالحهم المباشرة، وكذلك حماية حرية الملاحة البحرية التى تُعد مكوناً مهماً من مصالحهم المباشرة. ولو تصوّرنا أن طرفاً ما أخذته الجلالة وسوء التقدير وقام بعمل طائش، فهل سيقف الآخرون عاجزين عن رده إلى جادة الصواب؟ المؤكد هنا أن هذا الطائش سيجد الكثيرين لردعه.
ووفقاً لهذا المنظور، فإن وجود بعض القواعد العسكرية لقوى إقليمية كإيران أو إسرائيل أو تركيا، وإن تضمّن نوعاً من «الأبهة» المعنوية والتمدّد خارج الحدود، فتركيزه الأكبر هو جمع المعلومات الاستخبارية عن حركة الملاحة، وتأمين البلد الذى يستضيف تلك القاعدة. ودون تهوين من أى تهديد محتمَل أو تهويل لوجود هذا الطرف أو ذاك فى إحدى دول القرن الأفريقى جنوب البحر الأحمر، فإن مصر تدرك الخط الفاصل بين التحرّكات التفاخرية والتحركات التآمرية والتحركات الرصينة. وبحكم الموقع الجغرافى والعلاقات مع الدول ذات الرؤية الرصينة فلديها قدرات هائلة فى جمع المعلومات التى تُبنى عليها استراتيجيات الرد الفورى لأى تهديد أو أى حماقة قد يفكر فيها زعيم طائش أو زعيم معجب بنفسه.