الأخبار
محمد السيد عيد
جمال عبد الناصر.. حكايات شخصية
حين كنت تلميذاً في السنة الثالثة الابتدائية بمدرسة التربية الحديثة، بحي غيط العنب بالإسكندرية، في أوائل الخمسينات، جاورني علي نفس المقعد تلميذ اسمه فتحي، سألني ذات يوم : هل تعرف جمال عبد الناصر ؟ كنت في سن لا تسمح لي باستيعاب ما يحدث في مصر من أحداث سياسية، فقلت له ببراءة الأطفال : لا. قال لي إنه أحد الضباط الذين قاموا بالثورة علي الملك، وزاد علي ذلك مفتخراً : أنا ابن خاله. وكان فتحي بعد هذا يقول لي من آن لآخر إن جمال عبد الناصر جاء لزيارتهم، أو للمبيت عندهم. ولم يكن هذا يعني لي شيئاً. عرفت بيت فتحي بحكم الزمالة، إذ كان يقع في شارع الأنهار الذي يتقاطع مع شارع الغدير الذي أسكنه. وأذكر أنه كان بيتاً صغيراً، بابه مغلق غالباً. يقول الجيران عن سكانه إنهم » ناس طيبين، في حالهم »‬.
وحين صرت في المرحلة الإعدادية، كنت أحلق عند حلاق اسمه فريد زهيان، دكانه في شارع النخيل القريب جداً لبيت خال جمال عبد الناصر، فكان عم فريد يزهو قائلاً لي ولغيري : إن الكرسي الذي نجلس عليه كان يجلس عليه جمال عبد الناصر. لكني لم أهتم بالبحث عن هذه الفترة التي سكن فيها جمال عبد الناصر غيط العنب إلا بعد أن كبرت وانشغلت مثل كل أبناء جيلي بالقراءة عن جمال عبد الناصر، ووجدت أنه قضي السنة الأولي الثانوية بمدرسة رأس التين الثانوية، وأغلب الظن أن هذا العام الدراسي قضاه جمال عبد الناصر كاملاً في بيت خاله بغيط العنب القريب نسبياً من المدرسة.
تقع مدرسة راس التين في آخر شارع كرموز عند تقاطعه مع شارع الخديوي. والمسافة بينها وبين بيت خاله حوالي ثلاثة كيلو مترات، والشباب في الإسكندرية يقطعون عادة مثل هذه المسافة سيراً علي الأقدام. وفي الطريق إلي المدرسة عبر شارع كرموز ستقابل علي الناحية اليمني، سوق الساعة للأقمشة، وهو سوق يشتري منه الفقراء - وقتئذ - احتياجاتهم من أقمشة الدرجة الثانية والثالثة بالوزن وليس بالمتر، أو بالأقية قبل معرفة الكيلو. ولا شك أنه كان يري كل يوم في طريقه النسوة الفقيرات يشترين ما يحتجنه لأولادهن من القماش الملوث بالزيت والشحم. أما خلف هذا السوق فتقع منطقة البياصة، التي كانت سكناً لعوالم الإسكندرية، وهي منطقة بائسة حقاً، بعدها سوق البياصة الشعبي، حيث تباع فيه الخضراوات والفاكهة واللحوم، خاصة السقط ( الذي يضم أحشاء الذبائح من فشة وكرشة ومنبار وغيرها مما يأكله الفقراء ). باختصار شاهد عبد الناصر هذا كله بعينيه، باعتباره واحداً من أبناء الطبقة المتوسطة، وعرف كم يعاني الشعب الحقيقي، ولذلك رأيناه حين وصل للحكم يعطي جهده لتحسين حال الفقراء.
وفي تصوري أننا إذا أردنا أن نتعرف علي جذور توجهات عبد الناصر نحو إنصاف الفقراء فيجب ألا نغفل هذه الفترة التي قضاها في غيط العنب.
إن انتماء عبد الناصر الطبقي هو الذي دفعه للتفكير في الاشتراكية، وفي وضع هدفين من الأهداف الستة التي أعلنتها الثورة، وهما : القضاء علي الإقطاع، والقضاء علي الرأسمالية المستغلة. مما ترتب عليه إعادة توزيع الثروة، كما كان هو سبب تبني فكرة مجانية التعليم، وغير ذلك من إنجازات غيرت وجه مصر.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف