على هاشم
أخلاقنا في أزمة.. تشويه "نافع" و "صلاح "نموذجاً!
* "اذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ومنعهم العمل"..أيا ما يكن تصنيف هذا الحديث الشريف..فانه يلخص بعمق وواقعية حالة مصرية بامتياز..حيث شهدت السنوات الأخيرة انفلاتاً في كل شيء..في الأمن والاقتصاد..والاعلام وحتي التعليم الذي وقع بين مطرقة التسريب والغش من ناحية. وضعف مستوي المعلم والمناهج والمنتج النهائي من ناحية أخري..تحولت حياتنا الي سجال وجدال وسفسطة وانقسام واستقطاب حاد..فهذا وطني شريف..وذاك عميل مأجور.. هذا لص.. وذاك أمين مؤتمن..ترك الناس الانتاج والعمل والجهد والعرق والتجويد والتطوير..والتفتوا الي جني المكاسب والأرباح والحوافز والمكافآت دون عمل حقيقي أو انجاز يذكر!!
تحول المجتمع الي بيئة خصبة لتداول الشائعات وتصديقها والتصرف وفقا لها. فاذا أراد تجار السوء والمحتكرون رفع سعر سلعة ما بثوا شائعاتهم المسمومة بغلو هذه السلعة فاذا بها تختفي بين عشية وضحاها من الأسواق..واذا بسعرها يصيبه السعار والجنون.. فترتفع أسعارها بالفعل..والي أن تبادر الحكومة باجراءات مضادة تكون جيوب المواطنين البسطاء قد خربت..فهم في الأغلب ضحايا تلاعب كبار الحيتان.
ترك الناس العمل والعلم وانساقوا وراء الشعوذة والخرافة والأرقام المدفوعة في هذا الشأن بمليارات الجنيهات سنويا..ناهيك عن تسلل الأفكار المتطرفة الي عقول بعض أبنائنا في غيبة المناعة الفكرية والعلمية وشيوع الأفكار الرجعية التي تخاصم العقل والتنوير والتقدم والاجتهاد والوسطية وسماحة الدين!!
البعض يحمل الحكومة مسئولية ما نحن فيه من تدهور وانحطاط أخلاقي وهذا صحيح في جانب منه.لكنه ليس السبب الوحيد. فالتنوير ليس قراراً حكوميا تتخذه الأنظمة بصورة فوقية بل هو نتاج تفاعل مجتمعي ونخبة واعية مخلصة في مسعاها بحسبانها طليعة الشعب وخاضنة كل تجديد فكري وتطور بشري مثلما فعلت نخبة مصر الحديثة التي بناها محمد علي الكبير وخلفاؤه من بعده. فوجدنا رفاعة الطهطاوي ذلك الأزهري المستنير الذي قاد البعثة العلمية المصرية الي فرنسا وعاد بفكر منفتح وطاقة هائلة وقدرة فذة علي الترجمة والحوار وقيادة المجتمع نحو العلم والنهضة.. ولا ننسي ما فعله الامام محمد عبده تلميذ جمال الدين الأفغاني وكيف طور الدراسة بالأزهر وخلصه من كثير من القيود والمعوقات وأطلقه علي طريق العلمية والرشاد الفكري. ومن بعده جاء قاسم أمين "محرر المرأة" بأفكاره المتحررة ليلقي أحجارا في المياه الراكدة حتي وصلنا الي لطفي السيد أستاذ الجيل وطه حسين وأمين الخولي وغيرهم من صناع النهضة الحديثة وقوة مصر الناعمة التي لا تزال آثارها شاهدة علي عظمة هذا الجيل الذي تربي في منظومة تعليمية واجتماعية رشيدة..فهل تستلهم نخبتنا شحيحة العطاء أفكار عظماء هذا العصر الفتيّ القوي الناهض النابض بالعلم والفكر والحرية والنضج والتطور والحداثة..هل تعود النخبة "الخاملة" نشطة الي صفوف الجماهير لتأخذ بيدها الي حركة التطور ومواكبة العصر وابتعاث الماضي الحضاري..هل تستيقظ نخبتنا من سباتها العميق لتضخ الحيوية في أوصال مجتمع عشش فيه الكسل والتواكل وسوء الأخلاق..؟!
الحق أقول..ان كثيرا من أزماتنا الحالية مرجعها غياب الحب والصدق والضمير..وحضور الأنانية والبغضاء والكذب وسوء الأخلاق.. أخلاقنا في أزمة وأزمة أجيالنا الجديدة أشد تعقيدا.. واذا أردتَ الدليل علي ما أقول فانظر الي سلوكيات طلابنا في المدارس والجامعات وكيف يغلفها العنف وتبطنها السطحية والتفاهة بسبب غياب القدوة الحسنة والغايات الكبري والنماذج المبهرة علما وخلقا وتاريخاً..الثقافة في أزمة..ولا نبالغ اذا قلنا إن سلوكيات المواطن في الشارع والمواصلات والنوادي والمقاهي والأسواق هي نتاج ثقافة مشوهة خلقيا..القبح صار ثقافة غالبة يستوي فيه الفقراء والأغنياء. إلقاء القمامة في الشوارع رغم وجود أماكن وصناديق لجمعها جزء من هذا القبح..وترك أعمدة النور مضاءة في عز الظهر والتزاحم علي الطرق وكسر اشارات المرور..واعتبار الرشوة اكرامية واجبة الدفع..كلها أشكال للقبح الأخلاقي الذي لم يعد الضمير الجمعي يرفضه أو يثور عليه بل صار الرافضون له استثناء لا يمكن القياس عليه..
الأجيال الجديدة معذورة فقد نشأت علي ثقافة الزحام والتدافع وخطف الفرص والفهلوة والواسطة واستغلال النفوذ واستعراض العضلات وهي القيم التي يعززها الاعلام بمسلسلاته وأفلامه الساقطة وبرامجه الحوارية الهابطة ليل نهار فكيف نتوقع جيلا أخلاقيا راقيا بينما الحاضنة غير الأخلاقية قد أفسدت ذوقه وقتلت الجمال في عيونه جيلاً بعد جيل.
نحن في حاجة إلي ثورة أخلاقية تهدم السلبيات وتبني علي أنقاضها منظومة خلقية ايجابية تعلي قيم الحق والخير والجمال والعدل..وهي القيم التي تربعت بهآ أمتنا علي عرش العالم يوما. وكانت سببا في خيريتها التي امتدحها الله من فوق سبع سماوات حين قال:"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله".
علينا أن نراجع حقيقة ايماننا الذي صار شكليا لا روح فيه ولا إخلاص. ولا فعالية. فلم نعد نتناهي عن الشر والغل والقتل والدمار والهدم والغيبة والنميمة..لم نعد نتواصي بالحق. والصبر..ولعل واقعتي "عم صلاح الموجي"بطل حادثة كنيسة مار مينا بحلوان الذي رفعته شجاعته وفداؤه واستهانته بالموت الي عنان السماء حين تصدي للارهاب.. فنال المديح والشهرة..واذا ببعض الحاسدين له يهوون به الي سابع أرض تشويها واغتيالاً للسمعة حيث طعنوا فيه وجعلوه "سوابق" في محاولة منهم لـ "شيطنته" واهالة التراب علي ما أبداه من بطولة وتضحية لأجل أشقائه في الوطن لا شيء الا لغل في قلوبهم وشيء في نفوسهم المريضة بالحقد.
وليس بعيداً عن ذلك الجحود ما حدث للراحل "ابراهيم نافع" الذي عرفته عن قرب اداريا محنكا وصحفيا قديرا ونقابيا معتبرا فتح منابر الأهرام واصداراتها للرأي والرأي الآخر ولكافة أطياف الفكر والانتماء السياسي..دافع بقوة عن حرية الصحافة وكرامة الصحفي وخاض معركة شرسة ضد أعداء الحرية. وبلغ به التحدي ذروته حين قطع رحلة علاجه في الخارج ليناضل مع رفاقه من أعضاء مجلس نقابة الصحفيين.. وكنت وقتها واحدا منهم وشريكا في نضالهم من موقعي يومها- كأمين عام لنقابة الصحفيين- ناضلنا جميعاً لالغاء القانون المشئوم 93 لسنة 1995 المعروف بقانون اغتيال الصحافة الذي أصدرته الحكومة بليل لاحكام السيطرة علي الصحافة وتكميمها وتقييد حرية الرأي والتعبير.والي أن يصل"نافع"الي القاهرة. بادر مجلس النقابة برئاسة الراحل جلال عيسي وكيل أول النقابة بالاجتماع وطلب المجلس منه أن يعترض علي القانون في الكلمة التي سيلقيها ممثلا للنقابة في اليوم التالي في حضور الرئيس الأسبق حسني مبارك لاحتفال عيد الاعلاميين. وأن ينقل للرئيس رغبة الجماعة الصحفية بعدم التصديق علي ذلك القانون..وقد أثار رد "مبارك"» "احنا مش بنبيع ترمس" غضب الصحفيين بشكل غير مسبوق..فما كان من ابراهيم نافع الا أن اتصل بي علي الفور ليبلغني رغبته في العودة الي القاهرة ليرأس بنفسه الاجتماعات المفتوحة لمجلس النقابة وعمومية الصحفيين لحين اسقاط القانون اياه..وقال لي بالحرف الواحد:"لن يمر هذا القانون"..وهو ما تحقق بالفعل .بفضل ما أدرناه من حوار حضاري مع كل المسئولين بالحكومة الذين اتضح أنهم لم ينقلوا بأمانة الصورة الحقيقية للرئيس وقتها..وهو ما دفع "نافع" لطلب لقاء عاجل مع الرئيس الذي أجاب طلبه علي الفور.وبالفعل التقي "مبارك" أعضاء مجلس نقابة الصحفيين الذين عبروا عن آرائهم واحداً بعد الآخر. وأبانوا له مدي خطورة هذا القانون علي صورة مصر وسمعتها في الخارج وعلي مستقبل الصحافة وحرية الرأي والتعبير فما كان من الرئيس مبارك الا أن نفي علمه بخطورة هذا القانون ونزل علي رغبة الجماعة الصحفية وأصدر تعليماته للنائب العام بوقف العمل بهذا القانون . وتشكيل لجنة علي أعلي مستوي لاعداد قانون جديد يتلافي عوار ذلك القانون المعيب..!!
ولم يتردد نافع رئيس الأهرام "الحكومية" أثناء النضال النقابي ضد القانون في فتح أبواب النقاش علي مصاريعها داخل الأهرام وخارجها. وهو ما شهده القاصي والداني ووفر غطاءً دولياً داعما لموقف النقابة ولحرية الرأي. وكان من ثمراته التراجع عن القانون اياه واقرار قانون جديد هو القانون 96 لسنة 1996 الذي أصدره -ويا للمفارقة العجيبة- نفس مجلس الشعب الذي أقر القانون المشئوم!! هكذا أدار نافع معركة الدفاع عن حرية الصحافة باقتدار وعبر بالمهنة وأبنائها الي بر الأمان..لم يداهن ولم يتخل عن "أمانته" النقابية..انتصر ضمير "نافع" النقابي علي مصالح "نافع" رئيس التحرير الحكومي..الأنكي من ذلك أنه تلقي بياناً شديد اللهجة من الراحل الكبير محمد حسنين هيكل كان قد أرسل به لمجلس النقابة فقام "نافع" بنشره علي صفحات الأهرام بعنوان "سلطة شاخت" في تحدي سافر للسلطة. وانتصار حاسم للمهنة..تصوروا لو لم يفعلها نافع ومجلس النقابة..فماذا كان مصير المهنة وحرية الرأي والتعبير اليوم..؟!
ومن أسف أن الذين نافقوا "نافع" في عز قوته وصولجانه نقيبا للصحفيين ورئيسا لادارة وتحرير الأهرام هم أنفسهم الذين طعنوا فيه . وانقضوا عليه بعد مغادرته للمناصب..واذا كانت ذمته المالية في يد العدالة وعند الله..واذا كان المتهم بريئاً حتي تثبت ادانته فلا أقل من رد الاعتبار لهذه الشخصية التي قد نختلف معها لكننا لا نملك الا أن نحترمها لأسباب عديدة أهمها الجانب الانساني الثري لهذا الرجل. ناهيك عن جدارته المهنية وتاريخه النقابي المشرف.
ما أود أن أخلص اليه من واقعة "عم صلاح" وما جري للراحل ابراهيم نافع بعد رحيله..أننا في أزمة أخلاق تستدعي وقفة لاصلاحها ولاسيما من جانب أصحاب القلم والرأي والفكر..ان حاجتنا لاصلاح أخلاقنا وسلوكنا لا تقل أبداً عن حاجتنا الي العيش والحرية والعدالة الاجتماعية..واذا كان من المندوب شرعاً أن نذكر محاسن موتانا فان ذكر محاسن الأحياء أولي عملاً بقوله تعالي:" ولا تنسوا الفضل بينكم"..واذا كان الله تعالي أنزل القلم منزلة رفيعة حين سمّي في القرآن سورة باسمه..فان تكريم أصحاب القلم أولي..أصحاب الأقلام الشريفة التي لم تهادن الفساد..واذا كانت الدولة بمحافلها الكثيرة قد غفلت عن تكريم هذه الطائفة من المبدعين أصحاب الرسالة رغم ذهاب جوائزها وما أكثرها الي الفنانين ولاعبي الكرة والراقصين وغيرهم..فإنه آن الأوان أن تحتفي بأصحاب القلم والفكر الذين تحدث أفكارهم وما تخطه أقلامهم تأثيراً كبيراً في الرأي العام وشتي فئات المجتمع والذين ناصروا الدولة في حربها للارهاب. وفي معركة البناء والبقاء..فمن حق الذين يصنعون للآخرين نجوميتهم وشهرتهم أن يجدوا طريقهم الي التكريم وهو ما ينبغي أن ينهض به المجلس الأعلي للاعلام والهيئة الوطنية للصحافة باستحداث جوائز لتكريم أصحاب الأقلام الشريفة.
وأذكر أنني فعلت شيئاً من ذلك حين كنت رئيساً لمجلس ادارة دار التحرير "الجمهورية" ورئيساً لتحرير كتاب الجمهورية . من باب تقديم النموذج والقدوة لشباب الصحفيين. واعادة الاعتبار لأصحاب الفضل والرأي والاستنارة. واعترافاً بفضل من سبقونا في العطاء للوطن والمهنة..فجمعت "في حفل كتاب الجمهورية" رجالاً يشار اليهم بالبنان. كانوا ولا يزالون ملء السمع والبصر. وتم تكريمهم وأذكر منهم -دون ترتيب- الأساتذة الراحلين: كامل زهيري ومحسن محمد وابراهيم نافع وجلال عامر وغيرهم..ومن الأحياء - أطال الله أعمارهم- الأساتذة: ابراهيم سعدة ومكرم محمد أحمد وسمير رجب ومحفوظ الأنصاري وصلاح منتصر وغيرهم..أتمني أن تهتم مجالس الاعلام والصحافة بتكريم أصحاب الأقلام حتي تظل القدوة الحسنة "ماثلة" في أذهان الأجيال الجديدة.. وتلك خطوة مهمة في طريق طويل لاستعادة الأخلاق القويمة في المهنة والمجتمع.