الأهرام
د/ شوقى علام
الخلل في المفاهيم (20) التعايش
يحث الإسلام أتباعه دائمًا على مد جسور التعاون والعمل على تكامل البناء مع غيرهم وفق سمات الإحسان ومقتضيات الرفق والرعاية ومظاهر العناية، من أجل استقرار المجتمعات الإنسانية وتنظيمها على أسس مستقرة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، وفى ذلك يقول تعالي: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[الممتحنة: 8]. هذه المعانى الراقية يجمعها مفهوم «التعايش» بأبعاده العميقة ومضامينه الدقيقة رغم حداثة رواجه فى أواخر القرن العشرين، وتعنى كلمة تعايش: المخالطة بين الناس بعضهم مع بعض على الألفة والمودة، إذ هى مأخوذة من: عَاشَ عَيْشًا وعيشة ومعاشا، أي: صَار ذَا حَيَاة، ويتمثل مدلولها الاصطلاحى فى ثلاثة جوانب، فهناك التعايش السياسى الذى يراد منه ضرورة التصدى لمظاهر العنف والحد منها، والتحكم فى إدارة الصراع بين التكتلات المختلفة بما يفتح قنوات اتصال مشتركة تستجيب لضرورات الحياة مدنيًّا أو عسكريًّا، وهناك التعايش الاقتصادى الذى يتصل بالشئون الاقتصادية والأمور التجارية والتبادلية، وهناك التعايش الدينى والثقافى الذى يستوجب التقاء إرادة أهل الأديان حول قيم التعاون والسلام ونشرها حتى يَعُمَّ العالمَ الأمنُ والاستقرار. لكن أهل التطرف وجماعات العنف والإرهاب اختزلوا هذا المفهوم لإعطاء المشروعية لأعمالهم التخريبية والإجرامية فى الداخل والخارج، حيث حصروا الأدلة الشرعيَّة الواردة فى البر والخير فى التعامل مع النفس والغير على أنفسهم وأتباعهم فقط، ثم أوغلوا فى تمييز الخلق ـ مسلمين وغير مسلمين - وتصنيفهم حسب الهوية والعقيدة وفق مرتكزاتهم الفكرية ونموذجهم الافتراضي، حتى اتخذوا من التعددية سبيلا للتصارع والتقاطع بخلاف ما أمرنا الله تعالى بجعلها سببًا دافعًا للتعارف والتواصل، كما قال تعالي: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات: 13].

كما أنهم يزعمون أن «التعايش» مفهوم يعادى عقيدة الإسلام ويخالف أحكامه ويعمل على ذوبان المسلمين فى غيرهم، ولا يخفى أنها دعاوى فاسدة تحمل أهدافًا خبيثة ترسخ الفُرقة وتشيع التشرذم وتنشر الخوف والعنف؛ لأن التعايش يكون بين ذاتين أو أكثر بينهما تمايز، ومن ثَمَّ يتوجب على الطرفين تجاه بعضهما الإقرار بوجود الآخر.

وفقدان هؤلاء هذه المعانى وتلك المقاصد جعلهم يجمعون إلى المفاسد السابقة استدعاء صورة تاريخيَّة معينة أو نصوص فقهية خاصة لها ملابساتها وسياقاتها الملائمة لواقعها الموجود تبعا للحالة السياسية السائدة وقتئذ من أجل إضفاء المشروعية لخططهم الفاسدة وأفعالهم التخريبية التى تهدف إلى إكراه الآخر على اعتناق أفكارهم المنحرفة بالعنف والقتل لا كما أمرنا الإسلام بالموعظة الحسنة وشرح الحقائق حتى يأتى الناس اختيارًا لا قهرًا أو تدليسًا، بالإضافة إلى ما صاحب محاولاتهم الفاشلة من الإرجاف والإرهاب كالتعدى على شركاء الأوطان ورفقاء درب بنائها وإيذائهم وترويعهم، فضلا عن سفك دمائهم واستلاب أموالهم والتعرض سلبيا لدور العبادة، مما أدى إلى دعم اتجاهات أخرى مضادة لنبذ الإسلام وتنحيته جزئيًّا أو كليًّا، مما أدى إلى دعم صعود ظاهرة «الإسلاموفوبيا».

وبذلك انبنى على هذا الخلل الظاهر لمفهوم «التعايش» جملة كبيرة من المفاسد التى صادم بها هؤلاء المتطرفون سنة الله تعالى فى عباده أمة بعد أمة، وصادروا فيها على شريعة الإسلام، وخرجوا باعتقادهم بهذه الأوهام وإصرارهم على اعتناق هذه الأفكار المنحرفة والمناهج الضالة عن مقررات ثابتة عمل بها المسلمون سلفا وخلفا مع الآخر، وحصل بها الإيمان والتحقق بسُنة الله فى اختلاف العقائد والتوجهات، امتثالًا لقوله تعالي:(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس: 99]. ولذلك ستظل التجربة المصرية فى التعايش بين أبناء الوطن نموذجا يُحتَذَى به ومثالا ينبغى تدريسه لكل المجتمعات التى تبغى الاستقرار والبناء.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف