يعلمنا درس التاريخ أنه حينما تقوم دولة بغزو شعب آخر فإنها فى العادة تعلن سبباً يبرر هذا الغزو ويجعله مقبولاً، ولكن السبب الحقيقى فى العادة يكون خفياً. وتسرى هذه القاعدة من حروب الإسكندر الأكبر التى قامت تحت شعار تحقيق الأخوة الإنسانية، إلى حروب جورج بوش للدفاع عن حقوق الإنسان. ويسعى التحقيق التاريخى إلى إزاحة هذا التبرير الإيديولوجى للبحث عن السبب الحقيقى. ولقد حدثت بين المنطقة العربية والغرب الأوروبى مواجهات عديدة مثل الحروب الصليبية وحملة بونابرت والحروب الاستعمارية واتفاقية سايكس بيكو والعدوان الثلاثى على مصر. ساد فى فترة معينة تفسير تبناه القوميون والليبراليون واليساريون فى المنطقة العربية بأن السبب الكامن وراء هذه الحروب هو المصلحة الاقتصادية. وأنه مهما اكتست هذه الحروب بشعارات دينية مثل الحروب الصليبية أو بشعارات إنسانية مثل القضاء على تجارة العبيد والأخذ بيد الشعوب المتخلفة للسير فى سبيل التمدن، فكل هذا ليس إلا قناعاً يخفى الأسباب الحقيقية للحرب. وتعد هذه النظرة رؤية عقلانية فى تفسير التاريخ، فهى تفترض أن الحرب مكلفة تقتضى توفير سلاح وإمدادات بالإضافة إلى دماء الشباب، ولن تقدم دولة هذه التضحيات إلا سعياً للوصول إلى ربح أكبر. وساد فى ثقافتنا العربية المعاصرة تفسير آخر يربط هذه الحروب بالعاطفة وليس بالعقل، فهذه المواجهات بيننا وبين الغرب، يكمن خلفها سبب واحد متجدد هو كراهية الغرب للإسلام، وبالتالى فالحروب الصليبية وحملة بونابرت والغزوات الاستعمارية ليست إلا سلسلة فى حروب طويلة تحركها هذه الضغينة ضد الإسلام، وحينما يذكر المؤرخون أسباباً مثل فتح الأسواق، واستنزاف الموارد والسيطرة على البترول، فإن هذه الأسباب طبقاً لهذه الرؤية التى تفسر التاريخ طبقاً للعاطفة لا تعد هى المحرك الرئيسى للحروب، بل هى مجرد قناع يخفى السبب الحقيقى وهو الكراهية التى يضمرها الغرب الصليبى ضد الإسلام. وهذا التفسير روجت له حركات الاسلام السياسى على اختلافها. فنحن إذن أمام رؤيتين متناقضتين: أن الأسباب الحقيقية اقتصادية، والأسباب الدينية مجرد قناع، أو أن الأسباب الحقيقية دينية، والمصالح الاقتصادية هى مجرد قناع. لا يقف الأمر عند هذا الحد، ولكن تأتى المشكلة من السلوك السياسى الناجم عن تبنى هذه النظرة أو تلك. فالرؤية التي تربط الحروب بالضغينة الدينية، لاتتصور نهاية للصراع، ولا إمكانية تاريخية للتعاون، ولا تستطيع المقاومة التى تعلنها أن تطرح شعاراً قابلاً للتنفيذ، أو حتى يكون لديها مفهوم محدد لمعنى الانتصار. ويتجلى ذلك فى ميثاق حركة حماس الفلسطينية التى ترى أن الصراع سيظل قائماً حتى يوم الدين. أما النظرة العقلانية فهى من خلال إدراكها السبب الحقيقى للصراع تستطيع أن تتصور شكل المقاومة الفعالة، كما تستطيع أن تطرح الشعار القابل للتحقق التاريخى مع الأخذ فى الحسبان الظروف التاريخية التى يتم فيها. كان ظهور حركات التحرر الوطنى، ثم بناء الدولة القومية وتبنى سياسة التنمية الاقتصادية المستقلة والدخول فى أحلاف تقدمية دولية هى صور متعددة للأشكال التى يمكن أن تتخذها المقاومة.
ويترتب على ربط الحروب بالعاطفة أن يبقى الشعب فى حالة استنفار دائم ويتم تعبئته للدفاع عن الدين أى عن المتحدثين باسمه، كما يسمح للسلطة بالاستبداد وتأجيل التمتع بالحقوق والحريات إلى ما لا نهاية. أما النظرة العقلانية فهى تتبنى سياسة المراحل وتنوع التكتيكات فى إطار الرؤية الاستراتيجية. ولو نظرنا إلى تاريخ مصر، نجد أن قادة الاستقلال فى بداية القرن العشرين قد تبنوا هذه النظرة العقلانية التى ترى أن الاستعمار الانجليزى لم يأت إلى مصر للقضاء على الاسلام وإنما جاء للاستيلاء على موارد مصر، وإن الهدف هو أن تمتلك مصر مواردها وتدير أمورها بنفسها. ورغم ذلك كان هناك سبيلان: الزعيم مصطفى كامل كان يرى أنه ينبغى الضغط بكل السبل لطرد الاستعمار الإنجليزى من مصر، ثم نبدأ ببناء الدولة بعد ذلك. فى حين أن أحمد لطفى السيد كان يرى أن علينا أن نبدأ فى بناء مؤسسات الدولة وتشريعاتها واقتصادها، وبعد ذلك سوف يكون الحصول على الاستقلال سهلاً ميسوراً. ورغم هذا التفسير العقلانى الذى يربط الحروب بالمصالح وليس بالعواطف، لا يمكن للحروب أن تقوم دون تأجيج عواطف الحقد والكراهية. ولكى نقف على طبيعة العلاقة بين العقل والعاطفة يمكن أن نتذكر هذا المشهد من رواية «كل شىء هادئ فى الميدان الغربى» للأديب الألمانى إريك ماريا ريمارك، حينما أطلق الشاب الألمانى النار على شاب فرنسى فى الحرب العالمية، ثم جلس بجواره وهو يحتضر وتذكر أساتذة التاريخ وهم يعلمونه حب الوطن وتحقيق عظمة ألمانيا ورفعها فوق الأمم وسحق الأعداء، كل هذه المشاعر العاطفية استغلتها فى النهاية البرجوازية الألمانية للدخول فى حلبة التنافس الاستعمارى ضد إنجلترا وفرنسا.