الأهرام
صلاح سالم
لمصر.. ولعبد الناصر أيضا
كان جمال عبد الناصر بطلا تاريخيا بحق التغييرات التى أحدثها فى موقع مصر داخل الإقليم والعالم، عندما قادت حركة التحرر القومى ضد الاستعمار الغربي، أملا فى إعادة امتلاك المصير والتأثير فى حركة التاريخ، الذى كان قارئا واعيا له، مدركا لمنطق سيره ولطبيعة القوى الصانعة له، غاضبا من الهيمنة الغربية، تواقا إلى الخلاص منها. يشى بذلك موقفه فى حرب فلسطين وإدراكه المبكر لجوهر الصراع فى المنطقة والوظيفة الحضارية لإسرائيل. وكذلك وعيه العميق بدور قناة السويس ليس على المستوى الإستراتيجي أو الاقتصادى فحسب بل على المستوى الرمزى كمعنى ومغزى، ومن ثم تلهفه الشديد على تأميمها رغم المخاطر المحدقة؛ لأن فعل التأميم لم يكن يمثل له مجرد تحقيق عائد مادي أو سياسي، بل كان فعل تحرر كامل من ذلك النوع الوجودى الذى يعيد تأسيس الذات الحضارية، وهو أمر صدق تماما فيما بعد، حيث غير قرار التأميم وما تبعه من ملابسات الحرب والدبلوماسية من طبيعة النظام الدولى القائم، وأدى ـ حسب العظيم جمال حمدان فى كتابه الرائع «استراتيجية الاستعمار والتحرير» ـ إلى توقيف موجة الاستعمار وتدشين موجة التحرير فى التاريخ السياسي العالمى.

لقد رآه البعض عسكريا متهورا، دفع بمصر إلى آتون الصراعات والحروب من دون تعقل، متجاهلين روحانية البطل التى تدفع بالأحرار إلى قتال الآلهة أنفسهم، كما يحكى لنا شاعر اليونان الكبير هزيود فى (الأيام والأعمال) عن البطل الإغريقي الذى تحدى قرار زيوس، الرئيس المستبد لمجمع الآلهة اليونانى !، بمنع نار المعرفة والحكمة عن البشر التعساء. وكيف قام بروميثيوس بسرقة جمرة من هذه النار المقدسة وعاد بها إلى الناس، مانحا لهم ما حرموا منه. وهنا يشتد غضب زيوس علي بروميثيوس فيأمر بأن يشد بالأغلال، ويسلط عليه نسراً، يرعى كبده فى النهار حتى إذا طلع اليوم الثانى عادت كبد بروميثيوس تنبت من جديد، وعاد النسر يفترسها.. وهكذا حتى قدم البطل الإغريقي الأشهر «هيراكليس» أو هرقل، أخيراً وحرره.

هكذا تؤكد الأسطورة إمكانية انتصار الإنسان على تجهم القدر وسطوة الأعداء طالما انحاز إلى المثل الكبرى للحياة كالحق والعدل والحرية، فإذا مات أحد أبطال الإنسانية بُعث في سواه، ملهما ومحفزا لمن والاه.. ولم يكن عبد الناصر سوى ذلك الطراز الرفيع من الإنسان، كان بطلا حقيقيا دافع عن حق وطنه وأمته والإنسانية معتصما بكرامته وإرادته، ضد هيمنة الغرب، الذى منح نفسه موقع الآلهة ووضع نفسه موضع الأقدار.

فى الداخل صاغ ناصر مشروعا للتحديث السلطوي، أخذ إلهامه من الحداثة الأوروبية وإن فى صورتها الاشتراكية «الشمولية»، محدثا فى مصر تغييرا امتد إلى عمق المجتمع والعلاقة بين طبقاته، وإلى قلب النظام السياسي بكل مكوناته، حتى رموز الدولة كالعلم والنشيد الوطنى. ولعله صحيحا أن هذا المشروع لم يبلغ الأفق الديمقراطى قط، ولم ينفتح أبدا على تيارات الحركة الوطنية خصوصا حزب الوفد بفعل الشك العميق بينهما، غير أن الأمر المؤكد أنه قد تبنى أكثر مطالب الحركة الوطنية نبلا وعمقا كإقامة جيش وطنى، وبناء السد العالى، وتحقيق الإصلاح الزراعى، وفرض التعليم النظامى الواسع الذى كان طه حسين قد اعتبره كالماء والهواء، وجميعها تنضوى فى صيرورة تحديث عميقة، تمثل بدورها الشرط الضرورى اللازم لأى تحول ديمقراطى حقيقى، وإن كان هذا التحول قد تعثر دوما، بل غاب دهرا، جرت فيه وقائع كثيرة انتهت برحيل البطل وبرحيله تهاوى الجسد وانطفأت الروح، وتلك هى قصة جمهورية 23 يوليو.. الثورة التى بدأت بتحرير مصر من محتليها، ومنحتها دفقة أمل فى التقدم نحو طليعة الأمم، وانتهت بعصر مبارك الذى وضعها فى مؤخرة الأمم، وهنا نود أن نضع ضابطين يؤطران التقييم التاريخى لهذه الجمهورية فى مئوية مؤسسها الذى حلت ذكرى ميلاده بالأمس: أولهما يحسب على عبد الناصر الذى وقع فى خطأ جسيم عندما استبعد تيارات الحركة الوطنية من مشروعه، على نحو حرم المجتمع المصرى من نخبته المدنية، وهو أمر أصاب الثقافة السياسية المصرية بضرر لم يتم جبره حتى الآن، إذ أوقعها فى فخ الواحدية وغياب التنوع الخلاق بعيدا عن الفوضوية والمراهقة السياسية. وبدلا من حقبة ليبرالية مشوهة كانت النخبة خلالها هى الهدف والغاية على حساب المجتمع فكان لدينا رأس بلا جسد، أصبح المجتمع هو الهدف مع إقصاء النخبة فصار لدينا جسد بلا رأس. فى الأولى كان ثمة استنارة فكرية دون تحديث مجتمعى، وفى الثانية كان ثمة تحديث مجتمعى دون تعددية فكرية وسياسية، وهو الأمر الذى أبقى المشروع الناصرى، رغم عمقه ووطنيته، فى إطار السلطوية البحتة، رهينا للمقادير التى أتت برجل ذى مزاج مختلف سار بمصر فى طريق آخر دون ممانعة تذكر من كتلة مجتمعية لم يكن لديها أدوات للمقاومة السلمية.

وثانيهما لصالح الرجل، الذى تحمله الأحكام التاريخية المتسرعة والكتابات السياسية المتحيزة كل آفات يوليو، وكأن مسار الجمهورية كان قدرا محتوما، تفضى بداياته إلى نهاياته بالضرورة، وهذا حكم جائر حسب تصورى؛ فالسادات كانت لديه فرصة عظيمة، خصوصا بعد حرب أكتوبر، للخروج من كهف السلطوية إلى آفاق الديمقراطية، وهو ما حاوله بتردد شديد ومراوغة أشد انتهت به إلى المناورة بالإسلام السياسي الذى نال منه وأهدر دمه ليرحل تاركا مصر فى محنة قاتمة. كما أن مبارك الذى طال حكمه لعقود ثلاثة أتيحت له كل فرص التحول الديمقراطي والتنمية الشاملة لكنه أطاح بها جميعا. وإذا كان ممكنا التماس العذر للسادات الذى امتد حكمه لعقد واحد شهد دراما الحرب والسلام، فلا يمكن التماس العذر لمبارك الذى ورث حكما مستقرا عقب معاهدة السلام وخروج مصر من حالة الحرب مع إسرائيل، لكنه رغم ذلك أهدر وقته فى وأد حيوية 23 يوليو، وفى النيل الصريح من قيمها الجمهورية عبر مشروع التوريث الذى أفضى إلى 25 يناير، والتفاخر فقط ببناء كوبرى هنا أو طريق هناك، ومن الظلم البين أن ينسب لعبد الناصر كل سوءات مبارك، لمجرد أنه وريث يوليو.. فليرحم الله ذلك البطل، الذى سيبقى دائما أحد الآباء المؤسسين للوطنية المصرية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف