الرسالة التي حملتها نتائج الانتخابات البرلمانية التركية هي أن الشعب قال كلمته واضحة جلية عبر صناديق الاقتراع.. لن تكون تركيا بلد الصوت الواحد أو الحزب الواحد أو الزعيم الأوحد.. ومهما كانت الإنجازات التي حققها أردوغان وحزبه علي مدي 13 عاما مضت فإن تركيا ستظل هي الأهم.. والديمقراطية هي الأهم.. ولن تتحول تركيا مرة أخري إلي ديكتاتورية الحزب الواحد صاحب الأغلبية المطلقة بينما الأحزاب الأخري علي الهامش.. الأغلبية المطلقة تعني سلطة مطلقة.. والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة.
من أراد أن يقرأ الرسالة علي وجهها الصحيح فلابد أن يدرك أن الشعب انحاز للوطن وللديمقراطية وليس للحكومة وحزبها.. انجاز لتركيا ومستقبلها لا لأردوغان الذي حصل حزبه علي أعلي الأصوات 41% لكنه لم يحصل علي الأغلبية المطلقة التي تسمح له بأن يشكل الحكومة منفردا ويسيطر علي البرلمان ليمرر ما يريد من القوانين منفردا كما كان عليه الوضع طوال السنوات الماضية.
الآن.. سيكون علي حزب أردوغان - حزب العدالة والتنمية - أن يدخل في ائتلاف مع أي حزب مع الأحزاب التي فازت معه.. وبالتالي ستكون الحكومة ائتلافية.. وسيكون صوت تركيا في الداخل والخارج خلال المرحلة القادمة معبرا عن التنوع الموجود في المجتمع.. ولو لم يحدث هذا الإئتلاف الذي له شروطه وضوابطه فسوف يشكل العدالة والتنمية حكومة أقلية تسقط في أقرب اختبار ويذهب الشعب التركي من جديد إلي انتخابات مبكرة.
هذه هي قواعد اللعبة الديمقراطية.. وهذا ما حدث ويحدث في الديمقراطية العريقة.. فقد عرفت الشعوب كيف تحل المشاكل الناجمة عن المنافسة علي السلطة والحكم عبر صناديق الانتخابات وبشكل منظم بدلا من الاحتراب الأهلي والقبلي والطائفي.. وعرفت الشعوب أيضا كيف تغير شكل الحكومة وتوجهاتها عن طريق الانتخابات بما يحقق إرادتها.
وفي كل الأحوال فإن تركيا هي المستفيد الأول من التغير الكبير الذي حدث.. فقد أعطت نتيجة الانتخابات درسا قاسيا لأردوغان وحزبه مفاده ان التفويض الشعبي الذي حصل عليه علي مدي 13 عاما ليس تفويضا علي بياض.. وأن الشعب صاحب السلطة الحقيقي ومصدرها يستطيع أن يسترد هذا التفويض أو يسحب من رصيده جزئيا في أي وقت عندما يشعر بالخطر حتي لا يتحول حزب السلطة إلي سلطة الحزب.
وفي ظني أن أردوغان نفسه استفاد أيضا من نتائج هذه الانتخابات ومن التراجع النسبي لحزبه.. فالنتائج الصادمة التي لم يتوقعها ولم يضع لها احتمالا ولو ضئيلا تقول له وبكل وضوح احذر من الوقوع في فخ السلطة المطلقة.. هناك أشياء لا يرضي عنها الشعب.. الأحلام والطموحات الكبيرة لابد أن تكون مرتبطة بإرادة الشعب ورغبته.. والشعب ليس مستعدا للعودة إلي زمن السلطان العثماني.. الشعب يريد الحكم الدستوري البرلماني وليس النظام الرئاسي الذي بشرت به.. وتجربة حزب العدالة والتنمية الناجحة في المجال الاقتصادي لن تكون جسرا للعودة إلي ديكتاتورية الحزب الأوحد والزعيم الأوحد.
ويقيني أن أردوغان أدرك حجم التغير الذي فرضه الشعب واستوعب الرسالة.. من ثم كانت دعوته السريعة إلي الأحزاب كي تتصرف بمسئولية وحساسية لحماية مناخ الاستقرار والثقة وتشكيل ائتلاف حاكم.. ولا شك في أن إدراكه لهذا التغير سوف يدفعه إلي إعادة النظر في مشروعات المستقبل التي كان قد أفصح عنها وأهمها بالتأكيد مشروع تعديل الدستور لإقامة نظام رئاسي قوي بدلا من النظام الحالي الذي يجمع بين الرئاسي والبرلماني.
كثير من المحللين وصفوا نتائج الانتخابات التركية بأنها انتكاسة سياسية كبيرة لأردوغان وحزبه.. وأرجعوا ذلك إلي تباطؤ الاقتصاد وارتفاع مستوي البطالة وتدهور الحقوق المدنية وتعثر عملية السلام مع الأكراد.. لكنني أضع فوق كل هذه الأسباب مخاوف الشعب التركي من إعطاء أردوغان المزيد من الصلاحيات في السلطة تحوله إلي ديكتاتور.. وفي ذلك تأكيد علي أهمية الانتخابات الحرة النزيهة في تأمين النظام العام ضد الانحراف وحماية الحاكم من نفسه.