محمد ابو الفضل
السفينة التركية والانتخابات الليبية
لم يتوقف كثيرون طويلا عند السفينة التركية المتجهة إلى ليبيا ومتفجراتها وأوقفتها اليونان أخيرا، وكأن هناك اتفاقا على تجاهلها، مع أنها جريمة مكتملة الأركان، تكشف لأى مدى تلعب أنقرة دورا فى تغذية الفوضي، ولأى درجة العلاقة وثيقة بينها والجماعات الإرهابية فى المنطقة.
اليونان تمضى فى طريق التحقيقات القانوني، لكنها بحاجة إلى دعم سياسى يمكنها من فضح المخطط التركى فى ليبيا والذى بدأ مع سقوط نظام معمر القذافي، وكشفت جانبا من ملامحه هيلارى كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، عندما أشارت لقيام أنقرة بالمشاركة فى تهريب غاز السارين السام من ليبيا إلى سوريا.
القيادة العسكرية الليبية تتابع الموضوع وتحتاج فقط مساندة من المجتمع الدولي، وميناء مصراتة أكد أنه تلقى إخطارا بالسفينة، ما ينفى أحاديث متناثرة تريد تعويم القضية بذريعة أن وجهتها كانت جيبوتى أو سلطنة عمان. حكومة الوفاق الوطنى التى يرأسها فايز السراج تصر على عدم الاهتمام بالقضية، وتغض الطرف عن متابعة تطوراتها، لأنها تعرف أن الفضيحة يمكن أن تخلف رذاذا يطالها، بحكم العلاقة الجيدة التى تربط بين السراج والقيادة التركية حاليا والدور المشبوه الذى يقوم به سفيره الإخوانى فى أنقرة.
كما أن الحكومة مستفيدة من استمرار السيولة الحالية، التى ساعدت على القبول بتجاوز توقيتات اتفاق الصخيرات، ليبقى السراج فى المشهد السياسي، بحجة أن انهياره قبل التفاهم على موعد الانتخابات يمكن أن يفضى لمزيد من التدهور.
وهو تصور حق يتبناه المبعوث الأممى غسان سلامة، لكنه يقود إلى باطل، لأن الارتكان إلى ضرورة الاستقرار موقف مطاط يؤدى لبقاء السراج وفريقه فى السلطة، فى حين إن انتخابات مجلس النواب الحالى جرت منذ نحو ثلاث سنوات وكانت الأوضاع أشد بؤسا.
القوى الدولية الفاعلة فى ليبيا، لم تملك حتى الآن الرغبة والإرادة للمضى فى سيناريو التسوية، بسبب تضارب أهدافها، فكل طرف يريد التسوية التى تحقق له أعلى مصلحة إستراتيجية، ويتصرف على أساس ذلك، حتى لو تسبب فى توسيع نطاق الانسداد، المهم الحصول على جزء معتبر من الكعكة الليبية. لذلك تصمم القوى الدولية المؤثرة على استمرار حظر تصدير السلاح إلى ليبيا، وفرملة التقدم الذى يحرزه الجيش بقيادة المشير خليفة حفتر، وعرقلة الجهود الرامية لبسط سيطرته على الأراضى الليبية، وبدا المجتمع الدولى كمن يحظر السلاح على الجيش فقط، بينما يسمح بتهريبه إلى الميليشيات وضخ متفجرات جديدة فى عروقها كلما لانت عزيمتها.
السفينة التى أُوقفت فى اليونان، ليست الأولى من نوعها، فقد سبقتها سفن أخرى من تركيا وغيرها، وهو ما يفسر سبب الغزارة فى العنف، ويبين أن هناك جهات عديدة لا تريد لهذا البلد الأمن والاستقرار، ويفسر سر التعثر الحاصل فى التسوية وتضارب المشروعات الساعية لحل الأزمة، ولماذا يظهر مناهضون لمشروع الحل السياسى المصري، كلما أحرز تقدما؟
الحمولة التى وضعتها السفينة التركية فى باطنها كانت كفيلة بمد الميليشيات بمعدات تمكنها من زيادة وتيرة التفجيرات فى ليبيا، وربما يتسرب جزء منها إلى دول مجاورة، الأمر الذى تسعى إليه تركيا لقطع الطريق على إجراء الانتخابات.
المؤشرات الحالية تقول إن الدول التى ساعدت على استمرار الفوضي، بدأت تتكشف ملامح أدوارها، فمنذ تسليط الأضواء على الدور القذر الذى تلعبه قطر فى دعم الجماعات المتشددة، وعبثها فى الفضاء الليبى تراجع بنسبة كبيرة، وصورتها البراقة تلاشت، وبدأت الشعارات ترفع صراحة فى مدن ليبية تندد بالدوحة، وهو ما لم يكن متوافرا من قبل.
تركيا، وهى تتقاسم مع قطر الكثير من الأدوار المتعلقة برعاية جماعات العنف والإرهاب، تريد تعويض تراجع الدوحة، وتحاول مضاعفة جهودها لكسر الحلقة التى بدأت تطوقها فى الأماكن التى تتحرك فيها، وهى تجد فى الساحة الليبية محاولة لتعويض إخفاقها فى سوريا، لأنها لا تريد التفريط فى ورقة التيار الإسلامى بأطيافه المختلفة.
لدى أنقرة، والقوى الدولية المستفيدة من دعم هذا التيار، اعتقاد أن إجراء الانتخابات فى هذه الأجواء سوف يأتى بنتائج تزيح القوة السياسية التى تتمتع بها الجماعات الإسلامية، ومن الواجب أن تحافظ على قوة عسكرية موازية تساعدها على الصمود فى مواجهة التقدم الذى يحرزه الجيش الليبي، وتمنع الوصول إلى الانتخابات فى وضع مختل يميل لمصلحة الخصوم.
الملامح المتوافرة تقول إن القوى المؤيدة للنظام الليبى القديم تستعيد عافيتها، بدعم من بعض رموز الجيش وشخصيات سياسية وقبائل كبيرة، وكلها كفرت بالأوضاع الراهنة بعد أن نجحت فصائل مسلحة، من العصابات والإسلاميين، فى السيطرة على عدد من المفاصل الحيوية للبلاد، وظفتها لمصلحة قوى خارجية، بينها تركيا.
بالطبع سفينة المتفجرات التى أوقفتها اليونان، لن تقلب الأوضاع رأسا على عقب فى ليبيا، لكنها تنطوى على دلالة رمزية مهمة تخص نمط تفكير بعض القوى فى الأزمة الليبية، والقدرة على توظيف الفراغ لتحقيق مصالح بعيدة تماما عن التسوية.
الحادث يفسر أحد أسرار العقم الذى يواجه الأزمة، ما يفرض على المجتمع الدولى التصرف بمسئولية، ومعاقبة الجهة التى تتسبب فى تعطيل الحل السياسي، وما تفعله تركيا من تدخلات سافرة فى ليبيا التى تبعد عنها مئات الأميال، يبدو مشابها لما قامت به فى سوريا القريبة منها، وفى الحالتين هناك قاسم مشترك وهو احتضان ودعم الإسلاميين. عندما اكتشفت قوى غربية ارتدادات الدور التركى فى سوريا، انتفضت لرعاية مصالحها، لأن الجماعات المتشددة التى تسربت من دول أوروبية إلى سوريا عبر الأراضى التركية عاد بعضها إلى أماكنه الأولي، واصطحب معه آخرين ضمن موجة من الهجرة غير الشرعية كادت تجتاح دولة مثل ألمانيا.
الموقف فى ليبيا أشد خطورة، وتحت لافتة دعم الميليشيات الإسلامية لإحداث توازن مع تقدم الجيش، ووقف التقدم الناعم الذى يحرزه أنصار نظام القذافي، تضع قوى أوروبية نفسها فى مربع غاية فى الحساسية، قد يسفر عن تعطيل الانتخابات، لكنه يمنح فرصة للجماعات الإرهابية للتغول والزحف إلى أوروبا، وربما يعطى مبررا لدولة مثل روسيا لتكرار اللعبة السورية على الأراضى الليبية.