التحرير
علاء خالد
ما بين الخامسة والثلاثين والأربعين
تزوجت والدتي من والدي عام 1951 وكان عمرها 28 عاما. هذا الرقم تسرَّب إلى وعيي فى الطفولة بأنه "رقم مهان"، يحمل خجل الانتظار، فكيف تتزوج فتاة فى هذا الوقت، وفي هذه السن المتأخرة؟ لا شك أنها كانت قريبة من "العنوسة، فقد كانت فتيات ذلك العصر يتزوجن فى سن مبكرة عن هذا، ففي عصر والدتها، جدتي، تزوجت فى سن الثالثة عشرة من ابن عمها، ويقال عنها أنها كانت تنام كطفلة على مائدة طعام العشاء. لا شك أن جدي، الذي كان يكبرها بعشرة أعوام، كان يتعامل معها كطفلة صغيرة وليس كزوجة. هذه الطفلة الصغيرة أنجبت خالى الكبير وهي لا تزال في الخامسة عشرة من عمرها.

كل هذه الأرقام المنخفضة، كانت تترجم بمعنى ما فى ذاكرتي، بشكل مرتبط بماهية الأنوثة أو الكرامة الشخصية، أو بالسن المناسبة للزواج، ودونه تبدأ الأنثى في العد التنازلى لفقد هذا الجزء العزيز والغالي من كرامتها الشخصية، الذي يرتبط بالزواج.
لا أعرف أي ثقافة أدخلت في عقلي هذا المعنى وأنا في هذه السن الصغيرة، هذا الارتباط الشرطي بين السن المبكرة للزواج وبين الكرامة الشخصية. كنت في هذه السن المبكرة أشعر بأثر رجعي، بالتعاطف الشديد مع أمي، عن تلك السنوات التي تأخر فيا ظهور العريس.
تلك سنوات رسخت في عقلي فكرة مؤداها أن من تعيش لهذه السن المتأخرة، ودون زواج، فهذا لا يعني إلا وجود "شيء ناقص" في هذه المرأة، التى ستصبح أمي فيما بعد.

لقد تحملتُ عبء هذا "الشيء الناقص" في طفولتي، وتعاطفت معها تعاطفا شديدا، وبدأت لعبة الأرقام تأخذ منحى ما فى حياتي. كأن هناك رقما يجب أن نصل إليه، كخط نهاية سباق قصير ناجح، ومن يتأخر عن الوصول في موعده، يفقد لذة اللعبة والمنافسة الحقة، يصبح خارج المنافسة بشكل ما، مقدسا وناسكا ومترفعا، وغيرها من تلك الألقاب التكريمية التى تحمل وجهين أحدهما حقيقي، والآخر زائف.
كانت هناك ظروف صعبة مرت بها عائلة أمي، أدت لتأخر الزواج، وكانت والدتي عادة ما تشرح لي هذا الظروف، من وفاة والدها، وتأثر أحوالهم بسبب الوفاة، وغيرها، وأنها هي التي كانت ترفض الزواج حتى لا تحمل والدتها وأخاها الكبير، الذي أناب عن الأب في غيابه، والذي ولد وكان عمر جدتي حينئذ خمسة عشر عاما؛ بمصاريف زائدة عن طاقتهما بعد زواح الأبناء الكبار في أسرتها.

طبعا تغيرت هذه النظرة الطفولية عندما كبرت، ولكنها تركت أثرا ما بداخلي. ليس هذا ماتغير فقط، ولكن النظرة للمرأة ككيان مستقل يجب أن يحقق نفسه أولا، سواء بالزواج أو بغيره، ولا ينتظر شيئا، ولا يشعر بوجود شيء ناقص مهما طال الانتظار، المهم أولا أن يتنفس هذا الكيان، ولا يتعجل تحقيق أي رقم معجز في هذا السباق.

لاشك أن هناك سباقا بيولوجيا آخر قد فُرض على المرأة فرضا، تلك البذرة البيولوجية التى تنمو وتذبل داخلها سريعا، أسرع بكثير من نمو العقل والوجدان، كما حدث مع جدتي. هذا النضج المبكر للجسد، والذي لا يصاحبه نضج في العقل والوجدان. سوء التفاهم الأزلي. تتسارع بذرة الخصوبة في نموها لتنبت سريعا وتتفتح، ثم تتضاءل مع الوقت وتذبل. المرأة في صراع داخلي مزروع فيها، قبل أن تولد، وعليها أن تخوضه للنهاية. تقف قلقة بين أن تمنح البذرة حياتها وأوان قطاف ثمرتها سريعا، وبين أن تحقق ذاتها وتمنح عقلها ووجدانها وجسدها حقهم فى النمو والتفتح، والوقوف كندّ وعلى قدم المساواة مع بذرة الخصوبة المتسارعة في النمو. هناك خوف دائم من أن تفوت، المرأة، على نفسها الفرصة وتفقد خصوبتها، بالمعنى البيولوجي الذي يتوج بالإنجاب، وليست الخصوبة الروحية والإنجاب النفسي المستمر والمتوالد. بالتأكيد التوفيق بين الاثنين يحتاج روحا جديدة، وأسئلة جديدة عن دورنا فى الحياة، وعن كمالنا النفسي، وهل هو قابل للتحقق جديًا؟ ربما عصرنا الحديث، الذي نعيشه الآن، بسرعته وبرأسماليته الشرسة، كسر حاجز السن لزواج المرأة، رماه وراء ظهره، ليس بسبب نظرته الأعمق لجوهر المرأة القلق، وإنما بإخفاء هذا الجوهر القلق واستغلاله بالكثير من الملابس الحديثة وأدوات الزينة وبرامج الحمية، وربما أيضا بنظريات المساواة التى تتسارع وتيرتها مع تسارع نمو هذا النظام الرأسمالي الشرس. أصبح هناك عبادة لجسدها "المنفرد"، والدعاية والترويج له. لقد كسر عصرنا حاجز السن لزواج المرأة، نعم، ولكن بدون أن يضع حاجزا جديدا، ومعه ألغى الهدف من الحياة أصلا، جعل الكل خائفا، ويخشى الارتباط والدخول في لعبة الأرقام والحواجز من أصله. ألغى هذا السباق الغريزي، وجعل الفرد يجري بمفره فى مضمار لا حواجز فيه حتى يسقط في نهايته من الوحدة. فتيات تجاوزن الخامسة والثلاثين، وربما الأربعين ولم يتزوجن: أصبحن ظاهرة كبيرة ومنتشرة داخل هذه السن وهذا الجيل بالتحديد، في المجتمع المحيط بي. تجاوزن مرغمات الإحساس المنغلق القديم، بحاجز "السن الصغيرة" والاهتمام بالخصوبة البيولوجية كما فى جيل جدتي وأمي، وأيضا حاجز "السن المتأخرة"، من أجل الوصول للنضج والخصوبة النفسيين، كما هو موجود في جيلي. أصبحن يجرين في مضمار بلا حواجز، يرافقهن شعور قوى بعبثية الحياة. هناك زمن يُسرق. ليس الزمن بالمعنى العام، كدقائق وثوان، وأيام وسنين وعقود، ولكن في طريقة استغلال الزمن.
الزمن، المرتبط بالخصوبة، أصبح حسابا رأسماليا في "البنك" تخشى امرأة مابين الخامسة والثلاثين والأربعين، من نفاده. تحسبه بالمليم، لذا يستنفدها، يعمق عندها هذا الحاجز البيولوجي. تصبح عبدة لهذا الزمن الذي ينال منها ويسحب من رصيد حيويتها وخصوبتها. سوء تفاهم جديد يضاف للسابق. وربما ما يساعدها على الاستمرار في هذه العبادة، هو لا مبالاة المجتمع الرأسمالي والمحافظ، معا، بجوهر هذه السن والتعامل معها بنضج.
قالت لي إحدى الصديقات، داخل هذه السن الحرجة، إنها تنتوي عمل جمعية نسائية للنساء المنفردات فى هذه السن ليتبادلن الخبرة والمشورة والأحاسس التي لا يوفرها لهن المجتمع. وقد رأيت فيه اقتراحا جديرا بالتحقق. لاأعرف مدى دقة ملاحظتى، ولكني أراها بكثافة داخل الوسط المحيط بي كما أسلفت. أغلبهن بدون تجارب خطوبة مفسوخة، ولا قراءة فاتحة، ولاتجارب حب ناضجة. أغلبهن ناجحات فى أعمالهن، وعلى درجة عالية من الثقافة والتعليم والخبرة، ولكن لا يزلن محاصرات بالعديد من الأرقام القياسية الخاصة بتلك الساعة البيولوجية للمجتمع التي تحتفظ بعدة أرقام في روزنامتها: سن الخصوبة- التى تجرى مع عداد العمل، ومع عداد سرعات العربة، ومع عداد كيلومترات الطائرات المتناقص قبل الهبوط للأرض - وأيضا سن اليأس، وأيضا سن البلوغ وزيارة خراط البنات.
هناك أرقام كثيرة تحاصر المرأة وتضعها فى مواجة مستمرة مع الأبدية الكامنة بداخلها. ربما أتحدث هنا عن طريقة معاناة شريحة معينة تقطن هذه السن، ولكن هناك شرائح اجتماعية أقل، تصبح معها هذه المعاناة مركبة وشديدة الوطأة، وبها المزيد من الضغوط والأرقام التى تشكل حواجز وحوائط تشل الحركة.
لا أعرف، ربما هناك أرقام تلف خاصرة المجتمع ويجب أن تتغير وتتسع وتفسح فيما بينها مساحات للحياة بدون شعور بأن هناك خسارة وفقدا، وحسابا يُستنفد. أن يقف المجتمع مع الأبدية الكامنة داخل المرأة. حتى ولو كانت هناك خسارة، فلن تصبح خسارة بالمعنى الرأسمالي الذى يصوغ حياتنا، ولكن كتجربة أحد مسارات الحياة، التى تتسم جميعها بالصعوبة. ربما يتحقق داخل المرأة الجانب الأكبر من الاكتمال النفسي، ربما أكثر بكثير من الرجل، بالرغم من كل تحولاتها البيولوجية، والنفسية، وتغير مزاجاتها. فداخل هذه التحولات هناك جوهر لحياة تنبض بكل عشوائيتها وتألقها وبريقها، وبدون أي سلطة ذنب تقمع هذا التفاعل الاستثنائي، كما عند الرجل.





تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف