د. مجدي العفيفي
من يهز وسطه ينال أضعاف من يهز عقله!
يتحدث (العالِم) فنحاصره بالسكوت وكأنه شيء ثقيل على الهواء..
وتتمايل (العالْمة) فتتسع الشاشة وتتوهج وينصت ويحدق ويبحلق الجميع..
يطرح المفكر هموم الأمة ويضيء الظلام والإظـلام فينا وحولنا، فنطفئ صوته وصورته بسرعة..
ويزهق فينا المغني ويرعبنا بحركاته البهلوانية وصوره البهية، فنتمنى ألا ينتهي الإرسال، وندعو أن يصبح الليل أطول من ساعاته!
نعم.. إن من يهز وسطه ينال أضعاف من يهز عقله..
..................................
تظل الراقصة تتحدث أكثر من الساعة والساعتين، تعدد مآثرها ومأثوراتها، وتشرح فلسفتها في كيفية التلوي والاهتزاز، وتتجلى بفتوحاتها وغزواتها، والمذيع أمامها لا حول له ولا قوة، ولا خيار لديه إلا الصمت وترك الحبل على الغارب.. فهو لا يستطيع أن يقاطعها.. في حين أنه يقطع ويبتر سيـاق محدثه، إذا كان مفكرا أو كاتبا أو عالما!
مع هؤلاء يضيق الوقت جدا، هذا الوقت الذي يطول ويطول مع أحاديث الراقصات والفنانين والفنانات، الأحياء منهم والأموات!
نعم.. إن من يهز وسطه ينال أضعاف من يهز عقله..
والمفارقة أيضا تتجلى في أنه، بعد حصار هؤلاء الأساتذة من حراس القيم، نرى هذه القناة أو تلك تنعم علينا بوصلة طرب وسهر وغناء حتى مطلع الفجر! فلا الوقت ينتهي، ولا المذيع يصرخ في ضيوفه الكبار، انتهى الوقت.. انتهى الوقت!
(أجب في دقيقة واحدة).. (باختصار لو سمحت).. (ليس عندي وقت).. وكأن المذيعين، قد اتفقوا على هذه الصيغ الاستفزازية، ليس للمتحدثين فحسب، ولكن لنا أيضا، فالضيف المتحدث منهمك في توصيل فكرته، مجيبًا عن سؤال المذيع الذي يحتاج بدوره إلى وقت يكفيه لشرح أبعاد الرؤية، غير أن المذيع يرهبه بـ(في أقل من دقيقة من فضلك)!
نعم.. إن من يهز وسطه ينال أضعاف من يهز عقله..
..................................
أي استخفاف هذا؟ ما من برنامج حواري نشاهده على هذه القناة أو تلك، إلا ونسمع المذيعين يصيحون بين الحين الآخر في وجوه ضيوفهم بلا حياء أو خجل، ولو كانت هذه الملاحظة فردية ما طرحتها.
إلا أنها للأسف الشديد أصبحت ظاهرة وجماعية أيضا، في محطاتنا الفضائية، الأمر الذي يجعل الواحد منا يكاد يتميز من الغيظ كلما شاهد واستمع.
ترى.. لماذا نغلّـق أبواب الزمن التليفزيوني مع المفكرين وحملة مصابيح التنوير في المجتمع؟
لماذا ساعة أن نحاصرهم بالأسئلة، نحصرهم في أركان الشاشات العربية (الفاضية)؟ في الوقت الذي نفتح فيه ساعات الإرسال بلا حدود للفنانين والراقصات والمطربين والمطربات، الأحياء منهم والأموات، ليقولوا ما يشاؤون:
فهذه تتحدث عن أزيائها إن كانت ترتدي أزياء، ولذلك فهي تحب فصل الشتاء، حتى ترتدي كل ما عندها من فساتين.
وتلك تعدد مآثرها الفنية وكفاحها المرير من أجل الحصول على علبة ماكياج أصلية.
أما هذه الفنانة فهي تتمنى للبنان الاستقرار والهدوء حتى تتمكن من التمتع بالتفاح اللبناني.
وآخر يحدثك عن غزواته التي يتضاءل بجانبها نابليون، في تحوله من السينما إلى غزو المسرح.. و.. و..
أين العلماء في المحطات الفضائية؟!
نعم.. إن من يهز وسطه ينال أضعاف من يهز عقله..
..................................
أليس من المفارقات أن نعرف تفاصيل حياة النجمة الفلانية، وكم مرة تزوجت.. وكم مرة طلقت.. وكم مرة تشاجرت مع زوجها.. وكم.. وكم.. في حين لا نعرف قدر جناح بعوضة عن (الفيمتو ثانية)؟!
أليس من المؤلم أن نتابع أدق التفاصيل مع 42 ساعة في حياة الراقصة التي خصصت لها إحدى القنوات برنامجا (من مكتبة) وكان يذاع كل يوم جمعة (!) ويبدأ منذ أن تفتح الهانم عينيها في الضحى، حتى تغلقها في صباح اليوم التالي.. بحمامها وفطورها وزوارها وغداها وعشاها وسهراتها ومواعيدها، في الوقت الذي لا يذكر فيه شيء عن اكتشاف ما هو أسرع من سرعة الضوء، وجهود العلماء في صوامعهم الإلكترونية لتحويل الإنسان إلى ذبذبات ونقله من مكان إلى آخر، بالعلم الذي هو في كتاب الكون؟
مفارقات مرعبة.. أليس كذلك؟
وما بين (أدمغة العلماء) و(أقدام العوالم) مسافات ضوئية.
ويا فضائيات ضحكت من بثها السماوات والأرض والناس والحجارة و.... الهواء..!
نعم.. إن من يهز وسطه ينال أضعاف من يهز عقله..