التحرير
نبيل عبد الفتاح
المشروع الثقافي لجمال عبد الناصر..​ رؤية مستقبلية (2/4)
نستطيع القول أن ذلك يعود إلى أننا إزاء مثقف في السلطة، أو مثقف الدولة، وهو استمرارية لنمط المثقف المصري الحديث الذي تخلق من أصلاب الدولة، وساهم في بنائها منذ محمد علي باشا والخديو إسماعيل حتى المرحلة شبه الليبرالية والناصرية، وكان الوجه الآخر هو المثقف في الدولة وخارجها في ذات الوقت لبعض مكونات الحركة الثقافية، أي أحد بناتها وفي ذات الوقت ناقدًا لها، وهي ازدواجية وسمت تاريخ نشأة وتطور المثقف الحديث في مصر على خلاف النشأة الحديثة لحقل المثقف في الغرب. من ناحية أخرى كان بعض المثقفين من اليسار منظمين داخل بعض المنظمات الماركسية، وهؤلاء كانوا على خلاف سياسي مع الناصرية أدى إلى صدام واعتقالات ومحاكمات عسكرية أو أمام محاكم أمن الدولة. وهو ما استمر لدى بعضهم، على الرغم من مشاركة عدد كبير في المواقع الثقافية في أعقاب الإفراج عنهم، وحل الحزب وما أثاره ذلك من بعض الخلافات بين الأعضاء. من ناحية ثانية كان الخلاف والصراع بين الناصرية وبين جماعة الإخوان المسلمين حول دور الدين في السياسة المصرية، ونزوعهم إلى احتكار النطق السياسي والأيديولوجي باسم الإسلام، ومن ثم تغيير طبيعة الدولة الحديثة وتحويلها إلى دولة ثيوقراطية، وفرض هندسة سياسية واجتماعية على أنماط الحياة المصرية الحديثة، والأسرة وفرض نمط من الذكورية السياسية والاجتماعية على هذه الحياة في إطار هندسة دينية تأويلية وضعية تزعم أنها صحيح الإسلام، وهو ما رفضه ناصر في إطار رؤية تضع الدين كأحد محفزات وحيوية مشروع التنمية وفي نطاق العدالة الاجتماعية. من هنا كان الصراع بين الناصرية ومعها المؤسسة الدينية المصرية الرسمية، وبين الإخوان حول دور الدين في إطار الدولة ومشروع التنمية. صراع تأويلي بين رؤية محافظة ومتشددة ومغالية ورؤية تقدمية للإسلام ودوره في التغيير الاجتماعي. من هنا كان الصراع ضاريا بين رؤى حول الدولة والسلطة، ومحاولات انقلابية للوثوب على السلطة.

يمكن القول إن الخلاف الكبير في المشروع الثقافي الناصري، يتمثل في تبني الدولة والنظام والنخبة السياسية الحاكمة مشروعًا اجتماعيا وسياسيا اشتراكي التوجه في نظره، ورأسمالية الدولة في نظر بعض الجماعات الماركسية. نظام ونخبة ذات أيديولوجية ناصرية مهيمنة، وقيادة كاريزمية تقرأ وتتابع، ومن ثم لديها تصور للثقافة ودورها في بناء الإنسان المصري الجديد آنذاك، وفق ما سبق أن قاله ناصر لثروت عكاشة. كان هذا التصور ينطوي على نزعة سلطوية، وفي ذات الوقت دور ثقافي تعبوي في إطار مشروعها السياسي والاجتماعي، من هنا كان الخلاف.
بين هذه الرؤية، ونظرة المثقف والأحرى بعض المثقفين لدورهم وضرورة استقلالهم، وإقرار الحريات العامة وضماناتها وحول العلاقة مع السلطة السياسية الحاكمة.

إن نظرة على قائمة أعمال المؤسسات الثقافية الجديدة التي أسستها الناصرية، وأنشطتها تشير إلى تركيز الإنتاج الثقافي على الترجمات للكتب الاشتراكية، وللأدب الاشتراكي بالإضافة إلى روافد فكرية وسردية غربية، ومن بعض كتابات مفكري ومبدعي دول القارات الثلاث، وهو ما شكل جديدًا في مجال الترجمة ومصادرها التي شكلت روافد جديدة في الفكر المصري والعربي الحديث والمعاصر.
ركزت الترجمة على الفكر الاشتراكي ومصادره كجزء من تغذية المرجعية "الاشتراكية" للناصرية، ومفهوم الاشتراكية العربية، أو التطبيق العربي للاشتراكية، أو ما أُطلق عليه بعض الماركسيين نقلاً عن تنظيرات ماركسية بالطريق اللا رأسمالي للتنمية. من ناحية أخرى تابعت حركة الترجمة المصرية بعض التحولات في الفكر الفلسفي الأوروبي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، الوجودية وما بعدها، وامتدت إلى بعض الدراسات الأدبية والنقدية، والنمط السردي لمدرسة الوعي، والتحليل النفسي للأدب، واللامعقول- مسرح العبث- والمسرح الفرنسي المعاصر ومسرح بريخت، وترجمات للأدب الأوروبي والأمريكي فوكنر، وهيمنجواي وآخرين، وبعض النصوص الروائية الإفريقية.

لاشك أن حركة الترجمة ساهمت في إثراء وعي وخبرات وتكوين أدباء جيل الستينيات، جمال الغيطاني وإبراهيم أصلان، ومحمد البساطي، وصنع الله إبراهيم، وبهاء طاهر وآخرين وهو جيل شاهد السينما الجديدة في العالم – الموجة الجديدة- وعايش الثورة الثقافية في الصين، وثورة الشباب من جامعة بركلى إلى السوربون، إلى اليابان، وهو ما جعل بعضهم يبدو متمردًا على السلطة الثقافية الرسمية. لا شك أن هذا الجيل من الأدباء والنقاد والمثقفين شكلت تجاربهم حيوية جديدة للسرد تحت وقع تأثيرات قراءاتهم ومشاهداتهم للسينما الجديدة وتفاعلاتهم مع واقع التغير في عالم الثنائية القطبية.


تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف