الأهرام
عبد الجليل الشرنوبى
حالة (البطاطس)!
تطرق باب الذاكرة قصة حقيقية قديمة، حدثت فى سبعينيات القرن الماضي، وكانت بطلتها إحدى النساء الفضليات فى قريتنا (شرنوب)، سافر زوجها فى مهمة عمل إلى القاهرة أو الصعيد ربما، وتركها وأبناءها مع مبلغ غير كبير، ودارت الأيام وطالت سفرة الزوج، وعصفت احتياجات الأسرة بأركان المبلغ، وقررت السيدة أن تُدبرِّ احتياجات أسرتها دون أن يشعُر بها أحد، كان فى المنزل خزينه من الخبز والبصل والثوم والبطاطس، وعند هذه الأخيرة توقفت السيدة متدبرة فى تفرد (حالة البطاطس) كواحدة من مكونات خزين الدار، إنها الثمرة الصلبة القادرة على أن تتحمل طول الانتظار حتى تخضع لشرف الاستخدام تطويعاً للتناول، غذاء شهياً على صور عديدة.

أورثت حالة التدبر فى مشهد (البطاطس) فكراً، قاد السيدة إلى أن تعتمد تماماً على (البطاطس) كطبق أساسى يغذى أفراد الأسرة الذين تجمعهم طبلية واحدة، وخلال قرابة شهر كامل من انتظار الزوج الذى طال غياب عمله، قررت أن تتعفف بالبطاطس عن حرج السؤال، وأن تستغنى بتنوع استخدامات البطاطس عن ألوان الغذاء الأخرى، وبين الوجبات كانت حياة الأسرة تسير طبيعياً، حيث تتواصل السيدة مع عائلتها و عائلة الزوج الغائب، حتى كان أن عاد الزوج والتأم شمل الأسرة، وفوجئ الرجل بما فعلته زوجته، التى كانت وجهة نظرها (ليه نستلف طالما خير ربنا موجود بطاطس، نأكلها مرة محمرة و ثانية مسلوقة وثالثة مطبوخة وتعدى ولا نتحوج إلا لله).

هكذا تلح هذه القصة على ذاكرة الواقع، وهكذا يسرد المداد تفاصيلها، ليتوقف بنا فى محطة للتدبر عنوانها (حالة البطاطس)، تلك الثمرة القادرة على أن تفرض صفاتها واقعاً نعيشه وطناً ومواطنين، درنة قديمة تقول الموسوعة إنها (أسْتُئْنِسَتْ منذ سبعة آلاف سنة) على الأقل، وعرفها العالم غذاءً منذ أربعة قرون، إذن البطاطس عمر من عمر الإنسان المصري، وباتت طعاماً متعارفاً عليه عالمياً فى القرن السادس عشر ميلادياً، وهى نفس الفترة التى خضعت فيها مصر لسلطان الحكم العثماني، وهو الحكم الذى بدأ فى التغذى على روافد الحضارة المصرية من جهة، وإثراء حالة الثنائية فى الحكم بين الوالى والمماليك بما لا يتيح لأحدهما الانفراد بمشهد الحكم، وهكذا تبدو العلاقة منطقية بين البطاطس والحالة المصرية ابتداءً، كلاهما قديم وكلاهما صار هدفاً للمطامع منذ أربعة قرون.

لكن ما ينبغى التوقف عنده فى (حالة البطاطس)، هو التماس مع الحالة الإنسانية المصرية المعاصرة، بجامع الفائدة فى كلٍ، فالبطاطس غنية بفيتامينات (جـ ــ ب6)، بالإضافة إلى النحاس والبوتاسيوم والماغنيسيوم والمنجنيز والألياف والكربوهيدرات والحامض الأمينى التربتوفان، هذا وتحتوى الثمرة المتوسطة الواحدة على قرابة (161 سعراً حرارياً) وهو ما يجعلها ذات فائدة كبرى لـ (البشرة ــ الضغط ــ الأعصاب ــ القلب ــ الهضم ــ العظام ــ الوقاية من السرطان ــ السيطرة على الوزن)، إنها نبتة ثرية الخصائص تماماً كما هو حال الإنسان المصرى حين يجد مساحات البراح لينمو، وحين يحصل على بيئة آمنة تحفظ له حقوقه وكرامته، وحين تتوافر له من أسباب جدارة الإدارة ما يُعين على جسارة الأداء.

ويمكن اعتبار سوء بيئة التخزين، من أهم العوامل المؤثرة سلبيا على أدوار (البطاطس) الإيجابية، وهى ذات الانعكاسات السلبية للبيئة على بناء الشخصية المصرية، وهى البيئة التى تعاقبت ظروفها الاستثنائية خلال عقود من الفساد والإفساد، فحولت العلاقة بين الشخصية المصرية والبطاطس من جامع المنفعة إلى جامع الاستخدام. وصار من الممكن إعادة تصنيف الشخصية بحسب طريقة الطهى داخل الإناء الوطني، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الأصل فى ثمرة البطاطس هو الصلابة، ولكنها لا تستعصى حال الاستهداف على أسلحة التطويع، حتى يمكن تشكيلها بحسب طبق التقديم، سقط سهواً أو عمداً من كتاب الطهى الوطني، الطريقة الجمعية لطهو طبق وطنى يملأ بطونا طال جوعها، وصار الكتاب محصوراً فى وصفات (تيك أواي)، قادرة على أن تحيل كل (بطاطس) الوطن إلى مجرد مقرمشات استهلاكية مضارها أكثر من منافعها، ووصفات تعتمد (الهرس) وصفة سحرية لتسهيل عملية المضغ وتسريع البلع، وتستحيل (البطاطس) فلسفة حياة فى وعاء طهى لا يسد جوعا، بعدما كانت منهج استزراع فى براح الحقول الوطنية، وراية استعفاف فى مواجهة الحاجة. وهكذا تعود بنا السطور أدراجها، حيث قصة البداية، طارحة سؤالها الأساسي، ماذا لو كانت الأسرة وأفرادها وطنا، والأب الغائب رمزاً للأمل، و(البطاطس) هى بعض زاد فى مواجهة البقاء، كيف يمكن لإدارة الأم أن تعبر الانتظار بناءً، دونما أن تهرس ثقافة البطاطس الاستهلاكية ما بقى من استقلال الأسرة الوطن؟ سؤال تعوز إجابته تضافراً مخلصاً من كل طهاة الوطن.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف