صباح الاثنين الثاني والعشرين من يناير شاركت وزيرة الثقافة إيناس عبد الدايم في إطلاق مبادرة حملت اسم "تراثك أمانة" بالتعاون مع دار الكتب والوثائق القومية، والحدث من الفاعليات الثقافية الأولى في عهد الوزيرة الجديدة ما يستدعي أسئلة وبحثا في هذه المبادرة التي تحولت أخبارها إلى نداء للمواطنين أن يشاركوا فيها ويتفاعلوا معها.
تقوم المبادرة حسب ما قالت الوزيرة في حفل الإطلاق على أن يقوم كل مصري لديه وثيقة أو مخطوط تراثي بإهدائه إلى دار الكتب والوثائق التي ستسلمه شهادة تقدير، وستدرج اسمه في سجلاتها امتنانا واعترافا بالخطوة التي قام بها.
خطوة محمودة ونبيلة تهدف إلى حفظ التراث وجمع ما ننزفه من كنوز كتابية ومعرفية لا تقدر بثمن، لكنها تستدعي شكوكًا وتساؤلات كثيرة، بدايتها أن التوقيت يحمل مفارقة مؤسفة إذ يأتي في نفس الأسبوع الذي اكتشفنا فيه أن غرفة آخر ملوك مصر التي "اختفت" قبل أعوام من داخل حديقة الحيوان بالجيزة وقد عادت للظهور في مزاد علني على موقع إلكتروني مقابل مليون دولار فقط.
من يحمي أوراقنا وتراثنا المكتوب إن كانت غرفة كاملة لملك قد غابت عن أعيننا ثم تذكرت أجهزة الدولة أن تشكل لجنة لبحث الأمر حين تجدد الغضب على مواقع التواصل الاجتماعي بعد خمس سنوات؟ سؤال قد تعتبره تجنيا على مؤسسة بحجم دار الكتب والوثائق وتشكيكا في العاملين بها، لكني أحيلك فورا إلى ما قاله رئيس سابق لنفس المؤسسة قبل شهر واحد فقط.
خلال ندوة أعدها الزملاء في جريدة الدستور اعترف زين عبد الهادي الرئيس الأسبق لدار الكتب والوثائق أن الكثير من المخطوطات الكاملة "أهدرت" خلال نقل دار الكتب من مقرها القديم في منطقة باب الخلق إلى المقر الحالي على كورنيش النيل، و أضاف: كان يجب أن نُعلم اليونسكو بذلك وبطبيعة تلك المخطوطات المهدرة.
لم نخطر اليونسكو التي كنا نسعى لإدارتها، والمتحدث مسئول سابق وليس باحثا أو مهتما بالشأن الثقافي يندهش ويتساءل مثله مثلنا، قبل أن يضيف أن مصر تحتاج لقانون للوثائق لأن الموانع التنظيمية والإدارية تمنع إتاحة ورقمنة مائة مليون وثيقة أمام الباحثين والجمهور، رغم أن ذلك جزء من مواثيق منظمة الأمم المتحدة التي وقعت عليها مصر!
وحديث الإتاحة للجمهور يحيلنا إلى ما تناولناه هنا قبل ذلك حين أشرنا إلى قيام وزير الثقافة السابق حلمي النمنم بحجز وثائق سيد قطب وحجبها عن الباحثين إلى أن أصدرها بعد ذلك في كتاب نشرته دار الكتب والوثائق أيضا، فهل ينوى المسئولون الجدد التحقيق في واقعة مؤسفة كتلك؟
في مقال للزميل والصديق محمد شعير، نشره في موقع مصراوي تحدث عما رآه وآخرون غيره حين ذهبوا إلى دار الكتب والوثائق بحثا عن مواد لعملهم الصحفي والبحثي والإبداعي، مواد يعرف الجميع أنها موجودة ومحفوظة في مكان ليس ملكا لمسئوليه ولكنه ذاكرة هذا البلد وحق أبنائه وأجياله الحالية والقادمة لكن أسهل ما تلقاه من ردود يتراوح بين "مش موجود" أو "للأسف في الترميم".
هذا التراث ليس محنطات ولا ملكية للنمنم وغيره ليحددوا لنا ما المتاح أو المحجوب، قيمة هذه الكنوز في إتاحتها للناس ليقرأوا ويناقشوا تاريخهم المكتوب ويشتكبوا مع ما فيه من دروس وعبر.
في نوفمبر من عام ألفين وخمسة عشر اتهم عمرو عبد العزيز المنير أستاذ تاريخ العصور الوسطى بجامعة جنوب الوادي دار الكتب والوثائق بالمسئولية عن اختفاء ما يقرب من عشرين مخطوطا نادرا من دار الكتب في الزقازيق. انتظر الرجل رد الدار على كشف هذه الكارثة فكان مما قاله المسئولون: هناك مبالغة في أهمية تلك الوثائق.
إن كانت الآثار الأكثر ضخامة تفلت بسهولة مدهشة وبتنوع بين عصورها فإن ما يجري للوثائق والكتب النادرة أشد فداحة، ولا يلقى نصيبا من الاهتمام والغضب الذي بات على المصريين أن يوزعوه من آن لآخر على تراثهم الضائع أمام أعينهم. نسخ من كتب تحمل تاريخ القرون الماضية وجدت طريقها بتعاون بين موظفين وتجار لنراها بعد حين معروضة في دول أخرى، وقد لا تراها حين تصل إلى من هم أحرص وأكثر تقديرا لقيمتها فيحتفظون بها داخل قصورهم ويُدفن سرها هناك.
تمثال مدفون أسفل منزل في المطرية أو أخميم، شباك أو مشكاة في مسجد تاريخي بلا حارس يختفي فتتبادل الآثار والأوقاف المسئولية عنه وتموت قصته، أو وثيقة تستقر في مبنى أنشأناه لكي نحفظها فيه فنجدها معروضة في مزاد.
الوفرة ربما هي لعنة هذا البلد، يفرط كل واحد في جزء من تراثنا، ومتخليا عن حق أجيال قادمة موقنا أن هناك المزيد -من الآثار والسرقة- ولن يحاسبه أحد.
"تراثنا أمانة" تقول لنا المبادرة ما نعرفه، وتدفعنا لنسأل أصحابها: نعم تراثنا أمانة، ولكن في يد من؟