هل مصر مثل تونس أم أنها تختلف عنها. هذا هو السؤال الذى انقسم حوله الناس فى مثل هذه الأيام قبل سبعة أعوام. فى السابع عشر من ديسمبر وقعت حادثة محمد بوعزيزى الشهيرة، عندما أشعل الشاب ذو الستة والعشرين عاما النار فى نفسه، احتجاجا على الصفعة التى تلقاها من شرطية فى مدينة سيدى بوزيد، بعد أن قامت السلطات بمصادرة عربة الخضار التى يتكسب منها. صفعت الشرطية بوعزيزي، وصرخت فيه أن «ارحل». أشعل بوعزيزى النار فى نفسه، وتظاهر الناس تضامنا معه، فتحولت «ارحل» إلى شعار للمظاهرات التى اجتاحت البلاد، ومن هناك انتشرت من المحيط إلى الخليج. فى البداية خرجت المظاهرات محدودة فى بعض المدن التونسية تضامنا مع بوعزيزي. مات بوعزيزى فى الرابع من يناير، فاتسع نطاق المظاهرات، ووصلت إلى العاصمة. عجزت الشرطة عن قمع المظاهرات، وامتنع الجيش عن دعم الشرطة المنهكة. فى الرابع عشر من يناير 2011 اضطر الرئيس زين العابدين بن على للرحيل إلى خارج البلاد، فكان هذا إعلانا بانتصار الثورة فى تونس.
انفتحت شهية النشطاء فى مصر وارتفع سقف طموحاتهم. مصر مثل تونس، وإذا كانت الثورة قد نجحت هناك، فإنها يمكن أن تنجح هنا. لديهم بوعزيزى ولدينا خالد سعيد. لديهم بن على ولدينا مبارك. لديهم تفاوت اجتماعى ولدينا مثله؛ إنها الثورة إذن كان للبعض الآخر رأى مختلف. مصر ليست مثل تونس، وما حدث هناك لا يمكن له أن يتكرر هنا.
الآن وبعد سبع سنوات عرفنا أن الفريقين كانا على صواب، فكما قامت الثورة هناك فإنها قامت هنا أيضا. لكننا عرفنا أيضا أن مآل الثورة فى مصر اختلف عن مآلها فى تونس، وإنه إذا كانت الأمور لا تقاس بمظاهرها، وإنما بخواتيمها، فإن مصر تكون فعلا مختلفة عن تونس.
اجتماع نشطاء المجتمع المدنى مع وسائل التواصل الاجتماعى ينتج مركبا ذا طاقة تفجيرية هائلة، قادرة على إسقاط الأنظمة. هذا هو ما أثبتته أحداث الثورة فى مصر وتونس. النشطاء الليبراليون اليساريون، أو من أسميهم الليبريساريين، بارعون فى بلورة المظالم، والتعبير عنها، وتوظيفها لتعبئة الجمهور ضد نظم الحكم. حدث هذا فى تونس، وحدث فى مصر أيضا. لكن قوى الثورة الليبريسارية فشلت فى البلدين فى ارتقاء سلم الثورة وصولا إلى السلطة، فالأخيرة انتهت فى يد قوى مختلفة تماما عن القوى التى بادرت بالدعوة إلى الثورة.
فى البلدين فتحت الثورة الباب لوصول جماعات الإسلام السياسى للسلطة لأول مرة، قبل أن تجبر على الخروج منها ثانية. فازت حركة النهضة بأكبر نصيب من المقاعد فى انتخابات المجلس التأسيسى التى جرت فى أواخر عام 2011، وبعدها بأسابيع حقق الإخوان والسلفيون فى مصر نتيجة أكثر وطأة فى انتخابات مجلس الشعب المصري. شكل الإسلاميون الحكومة فى تونس، بينما وفر الحقوقى الدكتور المنصف المرزوقى شرعية ليبرالية لهم، من موقعه فى منصب رئيس الجمهورية محدود الصلاحيات. انتخب الإخوانى محمد مرسى لرئاسة مصر، متمتعا بشرعية وفرها نشطاء ليبراليون ويساريون، هالهم أن يصل للرئاسة أحمد شفيق، آخر رئيس وزارة عينه مبارك، فدخلوا مع الإخوان فى شراكة من موقع الشريك الرمزي.
انفرد الإسلاميون بالتيارات الليبريسارية المفككة، مستفيدين من حالة الصدمة والارتباك التى خلفتها الثورة على التيار الوطنى فى البلدين. بحلول صيف عام 2013، كان التيار الوطنى قد أعاد تنظيم صفوفه من جديد. انتفاضة المصريين فى الثلاثين من يونيو ضد حكم الإخوان، وانتفاضة التونسيين ضد حكومة النهضة فى وقت يكاد يكون متزامنا، كان تعبيرا عن استعادة التيار الوطنى فى البلدين تماسكه. الحزب الدستورى هو حزب الرئيس المؤسس الحبيب بورقيبة، وهو حزب الوطنية التونسية الذى حرر البلاد من الاستعمار الفرنسي، قبل أن يحكم البلاد طوال نصف القرن التالي. شاخ الحزب الدستورى فى السلطة، وترهل تحت قيادة بن علي، لكنه ظل الممثل الرئيسى للوطنية التونسية. تكالب الثوريون ضد حزب الوطنية التونسية فأصدروا ضده قرارا بالحل، لكن أنصار الوطنية التونسية عادوا للانتظام فى حزب «نداء تونس» بقيادة المناضل الوطنى القديم الباجى قائد السبسي. فى عام 2014 فاز السبسى فى انتخابات رئاسة الجمهورية، وفاز حزبه بالعدد الأكبر من المقاعد فى انتخابات المجلس النيابي, وتم إنقاذ البلاد من براثن الظلاميين.
لا يوجد فى مصر بنية حزبية قوية مماثلة لما هو موجود فى تونس. حل حزب الوفد بعد ثورة يوليو 1952 حرم الوطنية المصرية من أهم تعبيراتها الحزبية. فشلت كل محاولات بناء حزب بديل يتولى تمثيل الوطنية المصرية طوال الأعوام الستين الماضية، فأصبحت القوات المسلحة التعبير والتجسيد الأهم عن الوطنية المصرية غير المنظمة حزبيا. انتخاب عبدالفتاح السيسى القادم من قلب القوات المسلحة لرئاسة الجمهورية فى يونيو 2014، كان تعبيرا عن استعادة تيار الوطنية المصرية الإمساك بزمام الأمور. الصراع بين التيار الوطني، من ناحية، والتيار الإسلامى من ناحية أخرى، هو الصراع السياسى الأساسى فى مصر وتونس، بينما تلعب القوى السياسية الليبريسارية أدوارا تكميلية، وفى هذا تتشابه مصر وتونس.
التيار الوطنى يحكم فى البلدين، ولكن بطريقتين مختلفتين. البنية الحزبية القوية فى تونس، ونقابة العمال جيدة التنظيم، والمجتمع المدنى المنتشر باتساع وعمق، والإسلاميون المستعدون للتفاوض والحلول الوسط، كل هذا مكن من إقامة نظام برلمانى تعددي، فيه قدر مناسب من التنافسية. فى مصر البنية الحزبية ضعيفة، ومنظمات المجتمع المدنى تطفو على سطح المجتمع دون أن تغوص فى أعماقه، والإسلاميون مهووسون بالسلطة، وأصحاب باع وتقاليد عريقة فى استخدام العنف، وفى هذا «مصر مش زى تونس».
احتفلت تونس بالذكرى السابعة للثورة فى ظل حكومة ائتلافية ضمت «نداء تونس» الوطنى مع «النهضة» الإسلامي؛ واحتجاجات اجتماعية عنيفة احتجاجا على خطة الاصلاح الاقتصادى ومعدل للنمو لم يزد على 2%. تستعد مصر للاحتفال بالذكرى السابعة للثورة وهى تبحث عن مرشحين ينافسون الرئيس السيسى فى الانتخابات المقبلة، بينما تحتفل بنجاح الاصلاح الاقتصادى وبتحقيق معدل نمو زاد على 5%، وفى هذا فإن مصر لا تبدو مثل تونس.