قبل نحو عامين أعدت قراءة رواية "بين القصرين" للأديب العالمي نجيب محفوظ، واكتشفت زاوية لم تشغلني كثيرا خلال قراءتي الأولي لها منذ سنوات طويلة، حيث تضمن أحد فصولها جدلا حادا بين عدد من شخصياتها حول ثورة 1919، تباينت خلاله الآراء بين وجهتي نظر بالغتي التناقض، فأكد البعض علي قيمتها الوطنية، ورأي آخرون أنها أفرزت سلبيات عديدة، وكان ضررها أكثر من نفعها! وبعد عقود من الثورة الأم انتصر لها التاريخ، وأثبت أنها كانت خطوة فاعلة علي طريق استقلال الوطن.
تبدو السنوات الفاصلة بين قراءتين للرواية نفسها كفيلة بجذب الانتباه إلي هذه الجدلية المحورية، لأن الظروف السياسية التي أحاطت بكل منهما أصبحت مغايرة، فقبل سنتين كان الخلاف علي ثورة يناير قد صار أكثر احتداما، وعلا صخب من يتعاملون معها علي أنها نكبة، ليُغطي في أحيان كثيرة علي أصوات مؤيديها، لهذا كان طبيعيا أن أنتبه لما سبق أن غاب عني في رواية أديب نوبل.
الملاحظة السابقة جوهرية، في إطار الحديث عن ثورة 25 يناير، فليس مُستغربا أن نجد أنفسنا محاصرين بأكثر من رؤية، تتباين في تقييمها وتختلف حولها، وهو أمر يحيط بكل الأحداث الكبري في تاريخ البشرية، وأعتقد أن الجدل يظل صحيا، بشرط ألا يتعدي النقاش دائرة الحوار الفكري مهما احتد، وألا يحاول أحد الأطراف فرض منطقه بقوة سياسية، أصبحت تمنحه السطوة في وقت ما، لأن القوة لن تستطيع أن تُفقد الحقائق منطقها، ويكفي استعراض ما حدث مع الثورة العرابية للتأكيد علي ذلك، فقد فشلت محاولات تشويهها، وتحويلها إلي مجرد "حركة" تسببت في احتلال مصر، لتظل إحدي العلامات البارزة في تاريخنا، حتي وإن استمر الخلاف عليها.
خلال عامين بعد الثورة ركب الكثيرون الموجة، وادعوا المشاركة فيها لمجرد أنهم مروا بالميدان مرورا عابرا، في ذلك الوقت كان صوت الميادين لا يزال مسموعا، لكن عندما علت أصوات منتقديها بدأ المدّعون القفز من السفينة، وتراجعوا عن مزاعم البطولة، وتنصلوا من تلك الأيام التي مزجت الخوف بالأمل، وعاش الكثيرون خلالها حلم التغيير، وعاصرنا عبرها حماقات من جعلتهم الظروف في الصدارة، ليسلبوا الثوّار الحقيقيين إنجازهم، ووصلت الكوميديا السوداء إلي ذروتها مع تولي جماعة الإخوان مسئولية الوطن، فأصبح الحلم كابوسا تمردنا عليه، لنصل إلي 30 يونيو بإرادتنا الشعبية، وصححنا المسار الخاطئ الذي لا يمكن اتهام ثورة يناير بأنها المسئولة عنه، فقليل من التفكير الموضوعي يؤكد أنها أحدثت تغييرا لا يُستهان به في مصر، ورغم أخطاء شابتها إلا أنها أزاحت نظاما كان سيستمر حتي الآن، بممارساته التي جعلت التركة بالغة الثقل، وأدت إلي أن يكون ثمن الإصلاح باهظا، ولولاها لكان مبارك هو من يجلس حاليا علي مقعد الرئاسة، أو ولي عهده جمال، فهل هذا هو المصير الذي كان يرجوه منتقدو الثورة؟!
بعد سبعة أعوام من اندلاعها أعتقد أن ثورة يناير تحتاج إلي نظرة موضوعية، تنطلق من دستور 2014 الذي أنصفها، وأكد أن طبيعتها الأصيلة كثورة لا تعتمد علي وجهات النظر. وهو ما يتطلب رؤية محايدة تتخلص من تشنُج الشعارات المؤيدة والمعارضة، وترصد الإيجابيات والسلبيات بعيدا عن التعصب، في هذه الحالة فقط سنرد الجميل لشباب دفعوا حياتهم ثمنا لحلم التغيير، وجعلته دماؤهم واقعا نحياه الآن.