الجمهورية
عبد العال الباقورى
الحاخام .. و"المطبعَّاتِي"!!
حفل "مؤتمر الأزهر العالمي لنُصْرَة القدس" الذي عقد في يومي الأربعاء والخميس من الأسبوع الماضي بمواقف مهمة عديدة. سواء في انعقاده وتوقيته. أو في كلمات الوفود وبيانه الختامي "الذي يدق ــ كما قال الإمام الأكبر في الجلسة الافتتاحية ــ من جديد ناقوس الخطر. ويشعل ما عساه قد خبا وخَمُدَ من شعلة العزم والتصميم".. بوركت وبوركت كلماتك يا شيخنا الجليل. والتي يجب أن تكون بنراساً هادياً لكل من يريد أن يعمل بقوة وعزم لنصرة القدس وتحريره.. وهذا ما اتسمت به كلمات عديدة في هذا المؤتمر. ويسترعي الانتباه ــ بشكل خاص ــ ما جاء في بيانه الختامي: "إن عروبة القدس أمر لا يقبل العبث أو التغيير. وهي ثابتة تاريخياً منذ آلاف السنين. ولن تفلح محاولات الصهيونية العالمية في تزييف هذه الحقيقة أو محوها علي مر التاريخ. ومن أذهان العرب والمسلمين ومن ضمائرهم".. ولم يقف البيان عند هذا الحد. بل أضاف شرحاً وتوضيحاً: "القدس بناها العرب اليبُّوسيون في الألف الرابع قبل الميلاد. أي قبل ظهور اليهودية. التي ظهرت أول ما ظهرت مع شريعة موسي. بسبعة وعشرين قرناً. كما أن الوجود العبراني في مدينة القدس لم يتعد 415 عاماً. علي عهد داود وسليمان عليهما السلام. في القرن العاشر قبل الميلاد. وهو وجود طارئ عابر محدود. حدث بعد أن تأسست القدس العربية ومضي عليها ثلاثون قرناً من التاريخ".
وهذه حقائق تاريخية يلقم بها مؤتمر الأزهر لنُصرة القدس حجراً لكل من يخوض في تاريخ القدس والأقصي باستخفاف لا يجوز. ولكل من يخرف بما لا يعرف من أحداث التاريخ. أياً كان مَن يفعل ذلك. سواء الرئيس الأمريكي الذي ارتكب جريمة في حق مدينة الأديان. أو بعض مَن يسمحون لأنفسهم بالعبث في التاريخ. وفي حق أبطاله. مثل ذلك الذي أساء إلي التاريخ وأبطاله خدمة لأغراض معروفة. لن ينالها.
وفوق هذا ومعه. كان لافتاً في مؤتمر الأزهر لنُصرة القدس. حضور الحاخام "هيرهيرش" زعيم حركة "ناطوري كارتا" أي حراس المدينة اليهودية غير الصهيونية. والذي أدلي بتصريح قال فيه: ليس هناك حقوق لهؤلاء الصهاينة وقادتهم في تمثيل الشعب اليهودي أو التحدث باسمه. وأن كلمة إسرائيل التي يستعملونها ليست إلا تزييفاً مشيناً. وليس هناك ثمة ارتباط بين هؤلاء الصهاينة وقادتهم بالشعب اليهودي وليسوا يهوداً علي الاطلاق. ودعا الحاخام هيرش قادة العالم الاسلامي ألا يلقبوا هولاء الصهاينة بالإسرائيليين أو اليهود. لأنهم يمنحونهم شرعية. ينبغي أن ينعتوهم بالصهاينة المحتلين. وأن يعلنوا أنهم ليسوا يهوداً علي الإطلاق. ولا يرتبطون بالشعب اليهودي ولا توراته. كذلك ليس لهؤلاء الصهاينة حقوق سيادة ولو علي ذرة تراب من كل أراضي فلسطين.
وهذه الحركة تأسست عام 1935. وتعترف بالسلطة الفلسطينية. ولهاعضو في المجلس التشريعي الفلسطيني. وكان لزعمائها علاقات جيدة مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. إن المناهضة اليهودية للصهيونية موضوع مهم. ولكنه غير معلوم في الوطن العربي. وهو يحتاج إلي دراسة خاصة ليس من جامعاتنا ومراكز البحث المتخصصة فقط. بل ومن وسائل الإعلام المختلفة.
ومثل هذه التفرقة بين اليهودية والصهيونية. لا تخفَي علي بعض العرب من المطبعين الذين يصمون آذانهم عن النداء. اليهودي الذي أطلقه حاخام حركة ناطوري كارتا. والذي أكد فيه أنه ليس لهؤلاء الصهاينة الذين يحتلون أرض فلسطين حقوق سيادة "ولو علي ذرة تراب من كل أرض فلسطين". إنهم يعرفون هذا حق المعرفة. ولكنهم يأبون.إلا أن يذهبوا إلي هؤلاء المحتلين وإقامة العلاقات معهم سراً وعلانية.
وقد يري البعض في موقفي تناقضاً بين الترحيب بموقف حاخام حركة ناطوري كارتا. وبين المطبعين العرب. وهنا لا يتردد المرء في إعلان أنه يري اليوم أن من أراد أن يطبع فليطبع. ويتحمل آثام عمله. ومن أراد أن يقاوم التطبيع بكل وسيلة مشروعة فليقاوم.. لا تثريب علي أحد في حقه في السفر وفي الزيارة إلي الكيان الصهيوني. ولكن التثريب كل التثريب علي ما يرتكبه من قول أو فعل في أثناء السفر والزيارة والإقامة. بشرط ألا يزيف الحقائق. ولا يجعل الأبيض أسود. أو الأسود أبيض. أو أن يتجاهل عامداً حقائق التاريخ والواقع.
لقد ذهب أحد هؤلاء وهو الأستاذ الدكتور سعدالدين إبراهيم. عالم الاجتماع المرموق. ذهب منذ قريب في زيارة ثالثة إلي الكيان الصهيوني لحضور مؤتمر حول الذكري المئوية لثورة 1919 المصرية!!.. وعاد من هذه الزيارة ليكتب قصائد غزل في حب الإسرائيليين لمصر والمصريين. وضرب مثلاً علي ذلك البروفيسوز شيمون شمير الذي وصفه بأنه "أحد الإسرائيليين العاشقين لمصر تاريخاً وشعباً وثقافة" أي أن هناك عشاقاً آخرين. ربما يكونون كثيرين بين الإسرائيليين!!
ودلل الدكتور سعد علي عشق شمير لمصر: "إن منزله في إحدي ضواحي تل أبيب صممه أحد تلاميذ المعماري المصري المهندس حسن فتحي. وقد ملأه شيمون شمير بالتحف المصرية. وأسسه بمشربياته علي طريقة بيوت القاهرة الفاطمية. ولم يكتف المؤرخ والدبلوماسي الإسرائيلي بالعمارة والأثاث. ولكنه أسس مدرسة متخصصة بكل ما هو مصري لغة وتاريخاً وفناً وحضارة. ومع محبين كثيرين من زملائه ومن تلاميذه. أصبحت جامعة تل أبيب أحد أهم مراكز الدراسات الشرقية المصرية في العالم".
لم يقل لنا عالم الاجتماع الكبير ولو كلمة واحدة عن أبحاث هذا المركز ومضمونها. وأهدافها من وراء هذا المضمون.
كل هذا لا أهمية له. يكفي الانبهار والعشق والتفوق العلمي لكل هذا.. ولا تسأل عما وراءه؟!.. هل تشك في شهادة عالم كبير في وزن الدكتور سعد.. يكفيه أن تحظي كلماته من عشق "إسرائيليين كثيرين" لمصر والمصريين. بقبول وإعجاب بسطاء القراء الذين يزيدهم عشقاً بقوله: "كذلك من آيات هذه المدرسة العاشقة لكل ما هو مصري أن التليفزيون الإسرائيلي يحرص علي عرض أحد الأفلام المصرية أسبوعياً. ويقال إنه أثناء عرض الفيلم المصري تكون شوارع تل أبيب والطرق الرئيسية في إسرائيل خالية من المارة. مثلما يحدث في شوارعنا حينما تكون هناك مباراة كرة قدم بين الأهلي والزمالك".. و"من آخر آيات العشق هذه انتشار أندية الاستماع لأم كلثوم. وهو ما أصبح يشار إليه بالكلثوميات".. وأخيراً وليس آخراً. "احتفاء جامعة تل أبيب طوال 2018 وأوائل 2019. بمرور مائة عام علي ثورة 1919. التي قادها سعد زغلول وزملاؤه".
وفي آخر مقاله بعنوان: "لماذا يحتفي الإسرائيليون بالذكري المئوية لثورة 1919؟!".. المنشور في "المصري اليوم" في السبت 13 يناير الحالي. يشير الدكتور سعد إلي أن الجامعة الإسرائيلية لم تحتف فقط بذكري ثورة 1919. بل احتفلت أيضاً بأربعينية "الزيارة التاريخية للرئيس المصري أنور السادات إلي إسرائيل عام 1977. وهو ما حدث في أوائل عام 2018".. كما أشار إلي ردود الفعل علي زيارته. سواء في إسرائيل نفسها أو هنا في القاهرة. وعواصم عربية أخري.
حقيقة شمير
إن الدكتور سعدالدين إبراهيم يتحدث عن شيمون شمير آخر غير الذي نعرفه. الذي خبرته القاهرة أول مدير للمركز الأكاديمي الإسرائيلي بها. ثم سفيراً للكيان الصهيوني في القاهرة أيضاً. وفي موسوعته وعنوانها "التطبيع والمطبعون" يتحدث الزميل الدكتور رفعت سيد أحمد عن حقيقة شمير هذا. وأظنها لا تخفي علي الدكتور سعد. فقد شارك كجندي مقاتل في حروب 1956 و 1967. و1973.. وقد أصبح عضواً نشطاً في دائرة تحليل المعلومات في المخابرات العسكرية الإسرائيلية "أمان". قبل أن يكافأ بنقله إلي جهاز الموساد. وتولي اعتباراً من عام 1981 إعداد دراسات أمنية عديدة عن كيفية التعامل مع قيادة منظمة التحرير ومحاولة إجهاض خططها السياسية. وقدم هذه الدراسات لقيادة الموساد وذلك قبل أن يرأس المركز الأكاديمي الإسرائيلي. وهو المركز الذي يقول عنه صاحب موسوعة "التطبيع والمطبعون" إنه تحول من "وسيلة" لجمع المعلومات عن المجتمع المصري عند بداياته في 1982. إلي "مؤسسة" لإنتاج التطبيع وتطويره وتسويقه. و"مؤسسة لاختراق المجتمع المصري وإعادة تشكيل العقل لخدمة المخططات الصهيونية علي اختلافها".. وينقل عن شمير نفسه قوله: إن مهمة المركز المعلنة هي رعاية ومساعدة الباحثين الإسرائيليين في مجالات البحث المختلفة.. "و" بغرض "خلق جيل من الأكاديميين المصريين المتعاونين مع العقل الإسرائيلي".. فضلاً عن تمويل الباحثين المصريين وحثهم علي القيام بالدراسات والأبحاث التي تخدم نفس الهدف.. كما أعد بحثاً بعنوان "العلاقات بين المجتمع المصري و"اليشوف" "أي التجمع" اليهودي في فلسطين عام 1948.. وفيه ارتكب مغالطات تاريخية عديدة. وأضفي أهمية علي ما ليس مهماً. واعتمد كثيراً منهج أنصاف الحقائق.. وقد يكون هذا البحث مصدراً لما جاء في مقال الدكتور سعدالدين إبراهيم. الذي سلفت الإشارة إليه. والذي أشار فيه إلي مشاركة وفد مصري في افتتاح الجامعة العبرية في القدس. كما تحدث عن علاقات التعاون بين هذه الجامعة والجامعة المصرية. والواقعة صحيحة تاريخياً. ولكن ماذا كان رد الفعل عليها من جانب قوي سياسية مختلفة تظاهرت وعارضت. خاصة أن اللورد بلفور. صاحب الوعد المشئوم مر بالقاهرة وهو في الطريق إلي القدس. والأهم من ذلك أن هذا جري قبل أن تكشف الصهيونية عن أهدافها كاملة في فلسطين. وقبل أن يستيقظ الوعي العربي علي حقيقة الخطر الصهيوني. وهو ما حدث مع بداية ثلاثينيات القرن الماضي. خاصة مع نشوب الثورة الكبري في فلسطين 1939-1936.
ثم ألم يسمع الدكتور سعد أو يري وهو في القدس ما حدث ويحدث فيها وفي مدن فلسطينية متعددة من بوادر انتفاضة شعبية واسعة؟!.. ألم يعرف شيئاً عن جرائم المستوطنين وعن حقوق الإنسان الفلسطيني المهدرة علي أرضه ووطنه أم أنه لا يهتم إلا بانتهاك حقوق الإنسان هنا في مصر؟!!.. دكتور سعد ليتك تنظر تحت قدميك جيداً.. بالمناسبة. هل قرأت مقال الأستاذة سناء البيسي في "الأهرام" يوم السبت الماضي؟!.. إني أشفق عليك. فليتك تُشفق علي نفسك مما تفعله بها.. واسلمي يا مصر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف