عندما كنت أعمل في الكويت، تعرفت على مستشار قضائي جاء للعمل معارا من وزارة العدل المصرية، تعارفنا في المطار، ووصلنا للكويت في الطائرة نفسها، واتفقنا على اللقاء عندما تستقر بنا الأحوال، وبدا أن أحواله قد استقرت سريعا بطريقة أفضل مني بكثير، ففي الوقت الذي كنت أجاهد فيه للحصول على رخصة قيادة شاهدته وهو يتجول في الشوارع راكبا سيارة مرسيدس من الطراز الأحدث، وعندما سألته لماذا تعجل هكذا ولم نكد نستقر، قال لي إنها كانت أمنية حياته أن يركب المرسيدس ولم يجد داعيا لتأجيلها أكثر من ذلك، وتعددت اللقاءات وكان من الممتع أن أسمع ملاحظاته عن الاختلاف بين نوعية المتهمين الذين يقابلهم في الكويت التي تحتوي على أكثر من 120 جنسية عنهم من مصر، وكيف يبدو المتهم الأوروبي متعاليا وغير مبال بما يمكن أن يحدث له وكيف يدافع عن نفسه واثقا أنه سيفلت من العقاب مهما كان الذنب الذي ارتكبه، في الوقت الذي ينهار فيه المتهم المصري حتى ولو كان بريئا في مواجهة أي سلطة رسمية، فنحن نمتلك نفسية هشة قابلة لتلقي العقاب، سواء بسبب أو بدون سبب، جميعنا نشبه شخصية المواطن "ك" في رواية كافكا الشهيرة، المحاكمة، عندما يدور التحقيق معه حول تهمة غير معروفة، ولكنه يشعر بأنه مدان دون أن يدري ما جريمته بالضبط. نحن نشعر دائما أننا مدانون أمام عدالة لا تتحقق أبدا.
لم يكن الحوار معه ينتهي، كنا نتحدث عن الأرض الجديدة التي نعيش فيها دون أن ننسى الأرض القديمة التي جئنا منها، الرابضة في داخلنا دون مغادرة، خلف كل هذا الحديث المتحضر المليء بالإشارات الثقافية كان هناك جانب بدائي في شخصيته، تعرفت عليه بالمصادفة حين عرفت أنه يذهب بانتظام لمنطقة خيطان المزدحمة بالعمال من الصعايدة الأُجراء، واحدة من أفقر الأماكن بالكويت وأكثرها ازدحاما بالعمالة المؤقتة الذين يعملون يوما ويتعطلون عشرة، واستمعت إليه وأنا غير مصدق وهو يحدثني عن عائلته، عن جذوره التي تمتد إلى الصعيد الجواني، حيث لا تستطيع عائلته أن ترفع رأسها على حد تعبيره، رغم أن فيها الكثير من المتعلمين الذين ارتقوا وأصبحوا يشغلون مناصب مهمة، ولكنهم جميعا يشعرون بالدونية إزاء العائلات الأقل منهم تعليما ومكانة، كل هذا لأن لديهم ثأرًا لم يظفروا به، إحدى العائلات المنافسة قتلت منهم اثنين دون أن يستطيعوا الرد، نظرت إليه حائرًا، سألته: وماذا فعل القانون مع القتلة؟ كنت أدرك أنني أخاطب رجلا من أقطاب القانون، ولكنه رد بلا اهتمام: في جرائم الثأر لا يوجد قانون، ولا عدالة أيضا، كل شيء يقف عاجزا أمام صمت الشهود من الجانبين، لا أحد يريد تدخل السلطات، ليس لأحد الحق في الظفر به سوى أصحابه حتى يتخلصوا من عار الخنوع، ثم باح لي بسره الخطير.. الخطوة الثانية بعد المرسيدس هي مساعدة أسرته على استعادة كرامتها والحصول على السلاح اللازم، وعندما رأى درجة فزعي أكد لي أنه ليس وحده في هذا الأمر، هناك أطباء ومدرسون ومحاسبون يعملون في الكويت وخارجها يشاركونه في الهدف نفسه، ولذا فهو على تواصل مع بقية أقاربه ومعارفه من الصعايدة الأجراء الذين يسكنون في منطقة "خيطان".
الثأر هو الدم، كما هو معناه في اللغة، أثر قديم بدائي من زمن القبائل، طقس مقدس يساوي بين قتل القاتل وبعث الحياة في نفس القتيل، وكان العرب يعتقدون أنه إذا سقط أحدهم قتيلا يخرج من رأسه طائر يدعى طائر الصدى، والصدى هو العطش، يظل يحلق فوق رؤوس أهله وهو يصيح: اسقوني.. اسقوني، حتى يدرك أهله الثأر فيكف عن الصياح، ولكن الإسلام جاء برؤية مغايرة، جاء بفكرة القصاص الذي يقوم به ولي الأمر، أصبح هناك بديل عن قوانين الصحراء المطلقة، ولكن فكرة القبيلة لم تنته تماما، ظلت كامنة في روح البلدان المتخلفة، طائر الصدى ما زال يحلق فوق البيوت الطينية في صعيد مصر، حيث بقايا القبائل العربية القديمة التي استقرت في هذه المنطقة، لا يوازيها في قوة الدافع إلى الثأر إلا قبائل اليمن التي توازيها جنوب البحر الأحمر، وكلاهما من بقايا العرب العاربة.
عندما كنت أعمل طبيبا في الصعيد جلس معى أحد شيوخ القرية، كان رجلا حكيما ومتعلما وأخذ يعدد لي أنسابه القديمة، ظل يعود للوراء حتى أتى على ذكر أسلافه القدامى من بني مزينة، كنت مندهشا، لأن الأنساب العربية لا تزال حية ومحفوظة وأن أهلها يحتقرون كل من لا نسب لهم، كانوا يمتلكون ذاكرة عنيدة، لم ينسوا عاداتهم القديمة حتى ولو كانت دموية.
لقد أهملنا الصعيد منذ عهود طويلة، ليس على مستوى البنية الأساسية والخدمات فقط، ولكن على مستوى التعليم والتمدن، مصر كلها متخلفة، ولكن الصعيد هو أكثر أهلها تخلفا وبدائية، لسنا أفضل منه حالا ولكنه غارق في دم الثأر، يدرك أن الدولة المركزية لا تعطيه شيئا، وأن أجهزتها أعجز من أن ترسي سلاما حقيقيا، كلها أطر فارغة تقوم بتمثيليات للصلح شبيهة بما يحدث في الأفلام، اجتماع مع كبار العائلة، قراءة الفاتحة، وشخص ما يحمل كفنه، وتعهدات بالصلح يوقعها الطرفان، ويظل ما في القلب من ضغائن على حاله، في أي مناسبة يبرز العنف الكامن في النفوس، تتأجج هرمونات التخلف وتستعر داخل الأجساد التي لا تعرف سبيلا لرفع رأسها عاليا إلا عبر مزيد من الجثث.
الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها الصعيد لا تجعل الصراع لا يهدأ حول أي شبر من الأرض، يتكاثر البشر على رقعة غاية في الضيق، محاصرة بين النهر والجبل وخلفها تمتد صحراء تسكنها الضباع المسعورة، صراع الفقراء الذي لا يهدأ على الفتات ومع ذلك لا يعدمون من يمدهم بالسلاح.
لقد تباعدت المسافات بيني وبين هذا المستشار، ولكني استيقظت مفزوعا على أخبار معركة دامية من معارك الثأر في الصعيد، مقتلة هائلة ترصد فيها أفراد إحدى العائلات بعائلة أخرى وأبادوهم، استخدموا فيها أحدث البنادق وكمية هائلة من الرصاص، في قرى لا يتوفر فيها القوت لأهلها، واعترف أحد الذين تم القبض عليهم بأن التحريض والتمويل جاء من أبناء العائلة الذين يعملون في الكويت، هكذا تم نشر الاسم في كل صحف الصباح، ولم أعرف إن كان الأمر يخص أسرة هذا المستشار أم غيرها، فجراثيم الحقد والضغينة منتشرة إلى حد مفزع، لكنهم استخدموا الأموال التي توفرت لهم لتحويل بعض الفلاحين الفقراء إلى أدوات للقتل، غذت مشاعر الاستعلاء والغرور والكرامة الزائفة وكل المشاعر البدائية المنحطة، وطغت على كل ما تعلموه، لم تستطع الشهادات ولا المناصب ولا الانتقال إلى بلد آخر أن تغير ما في نفوسهم، خاصة وهم يستغلون الآخرين لتنفيذ مآربهم الشخصية وإرضاء الجوع الهمجي في داخلهم وما زال طائر الصدى يعاني من العطش للدم.