علاء خالد
«السير على طرق مفروشة بالليمون» قراءة
في طريقه لبيته الجديد، الذى اشتراه كريس ستيورات- الذى عمل قبل ذلك فى أكثر من مهنة ومنها جز صوف الخرفان، وعضو في فرقة موسيقية، وفي الطبخ، وفي السيرك- في "أورجيفا" فى أحد سهول الأندلس، تاركا وراء ظهره بيته في إنجلترا، حيث نشأ وعاش وتزوج، واشتغل؛ سيعبر بغرناطة، لتظهر له سلسلة جبال سييرا نيفاد، التي يبلغ ارتفاعها حوالي 2000 متر، ومغطاة طوال العام بالثلوج، حيث وصفها الرحالة الإدريسي في نزهة المشتاق بـ"جبل الثلج" أو "شُليْر": "هذا الجبل طوله يومان وعلوه في غاية الارتفاع، والثلج به دائما في الشتاء والصيف".
سيعبر أيضا بسهول وبطرق مملوءة بثمار الفاكهة، حيث حبات الليمون تفرش الطريق الذي تسلكه العربة. ثم يعبر نهرا عمقه حوالي نصف متر، ليصل إلى "مزرعة الفاليرو" تلك المزرعة الجبلية التي اشتراها كريس ستيوارت مع وزوجته "آنا" الخبيرة فى البستنة، بخمسة وعشرين ألف جنيه إسترلينى فى منتصف التسعينيات، بحثا عن حياة جديدة، ليزرعا ويقلعا ويربيا الخراف.
سيعبران أيضا في طريقهما "كريس" و"آنا" بأشجار "اليوكاليبتوس"، أشجار الكافور المصرية التى تستخرج منها زيوت لها رائحة نفاذة وتستخدم لتخفيف الكثير من الآلام. وهناك أيضا أشجار الزيتون التى يستخرج من حباتها زيت الزيتون المنتشر في كل الموائد والمذاقات في إسبانيا. سيصادفان أشجار اللوز المزهرة، والرمان، وأراضي مكسوة بحبات الكرنب والبطاطس.
تقف المزرعة على تلة صغيرة مرتفعة وأمامها واد فسيح مصب لنهرين يأتيان بالرياح، وسلسلتين عظيمتين من الجبال يأتيان أيضا بالرياح التى تتراقص حول المزرعة وتدخلها في دوامة هوائية. ومن مكانه داخل المزرعة ويرى تويجات أزاهير الجرانيوم القرمزية التي تغطي الوادي، التى تسمى فى مصر الجارونيا أو الخبيزة أو الخديوجة، ولها زهرة حمراء مميزة ولها القدرة على النمو في الشتاء.
تقع "الفاليرو"، حيث المزرعة التى اشتراها كريس، على الجانب المغلوط من النهر، فيمكن أن "يرتفع النهر مع زوابع الشتاء وأمطاره، ويمكن أن يعزلك عن العالم أسابيع أو أكثر" ويمكن أيضا فى حال بناء سد أن يغرق الأراضي الزراعية، وهو السبب الذى جعل صاحب المزرعة الأصلي يبيعها لكريس، ويرحل للمدينة البعيدة عن التهديد، حيث الماء الجاري والكهرباء. لم يكن بالمزرعة ماء أو كهرباء.
سيعبران أيضا بأشجار البلوط، السنديان، فارعة الطول، وهى أشجار معمرة يبلغ عمر الواحدة حوالي 200 عام، وتعاصر أكثر من جيل لعائلة واحدة.
سيعبران أيضا بأعشاب الزعتر الذى له رائحة طيبة. كل النباتات والأشجار هناك لها وجه شاف. ثم سيعبران بشجر الآكاسيا أو السنط أو شجرة الصمغ العربى فى تسميتنا العربية. وداخل هذه الطبيعة العلاجية سيقابل ستيوارت تلك الأم التى نجحت في علاج ابنها من التيفود بالأعشاب والماء النقي.
سيصادفان فلاحي القرية وهم يقومون بأعمالهم اليومية، إما ينظفون ساقية، أو يسوقون رتلا من الماعز، أو يسنون حواف منشار، أو يوسعون مجرى المياه، أو يعبئون سلسلة منشار ضخم. وإنا وهم في أوقات الراحة يأكلون وجبة "بطاطس الفقراء"، التى تتكون من قطع غير منتظمة مقلية مع فنجانين من زيت الزيتون، وشحم الخنزير، ومع رأسين من الثوم، بقشرهما، أو تلك الوجبة الشعبية المكونة من الأمعاء الدقيقة لحيوان الخنزير، أو الماعز، ثم يتلوها تجرع كأسين من النبيذ مع قطع اللحم المدخن. سيصادفان تلك الموائد المرتجلة المفروشة على برميل أو شوال من الخيش لتعبئة السكر. ومن حولهم ترعى الأغنام والخنازير والماعز.
وسيصادف أيضا الحشرات والدبابير والذباب والعقارب التي تتسلق الجدران في الصيف، والثعابين التى لم يرها ولكنه يعرف بأنها ترعى فى الوادي.
فى هذه الحياة الجديدة سيقابل كريس ستيوارت أشخاصا من القرية لهم هالة سحرية يمكن أن يفعلوا أي شيء، ويحلوا أي مشكلة تعترض الحياة هناك. هذه هي موهبتهم الأصيلة، تسيير الحياة وتخطي الصعاب.
يقول كريس فى بداية رحلته واختياره لهذا المكان "لقد رمينا جانبًا كل ما هو مريح، ومألوف في حيواتنا، ورمينا أنفسنا في العراء" ص 93.
كان يرى نفسه فى صورة اللاجئ الذى يعيش الحياة الصعبة بدون أن يطردهم أحد من وطنهم، وبدون اضطرار. لاجئ بالضرورة. هذا اللاجئ الإنساني أراد أن يقتل في نفسه أى إحساس بالتعالي عن أصحاب الأرض الأصليين، حيث زرع نفسه بينهم، فكان يسمي "الفلاح" والذى تحمل التسمية له بعض الامتهان أو التحقير الطبقيين: "أستاذ الأرض". يصف نظرة الناس من أهل القرية له ولزوجته في طريقهما لحياتهما الجديدة "ربما ما مر بنا ونحن على الطريق حسب أن لنا هيئة لاجئين أرغموا على ترك ديارهم الحبيبة، لكننا لم نشعر بالغم، بل كنا ذاهلين من هول مفاجأة أن نجد أنفسنا منخرطين في أداء سيناريو كنا قد كتبناه بأنفسنا" ص 93-94
يقصد أنه كتب سيناريو حياته، وبإرادته، بأن يصبح لاجئا.
عندما وصلا إلى المكان الجديد الذى اختاراه كأنه "أرض الميعاد"، أول ما رصده كريس ستيوارت هناك بجانب أنه يبنى حياته الجديدة، أنه أيضا جاء ليبنى أيضا موته الجديد، يكتب "طيب ها قد وصلنا. هذا هو موطننا. هنا سترقد عظامنا". الوطن هو الذي تنتهى فيه حياتك، وليست التي تبدأ. المكان الذى ستدفن فيه. أى رحلة تنبئ بتغيير إحداثي الموت أيضا.
هذا اللاجئ المثالي يثق فى الجميع ولن يرى في البداية شبكة النميمة التي تربط حياة الفلاحين هناك، لقد أخطأ بحسن نيته فى الحكم على شخصية أحدهم، وراح شاكيا لزوجته التى لا تمتلك نظرة مثالية فقالت له: "لأنك لا تهتم بالحكم على شخصية الناس، هذا موطن قوة إن كنت تعلم، كما هو موطن ضعف". ص 132
هذا التساؤل الذى يفرض نفسه فى أى تجربة جديدة هل أرى الحقيقة أم أرى نفسي فقط؟ بالفعل هذه النية الطيبة تسمح بأخطاء عظيمة، ولكنها مهمة أيضا.
وهناك في هذا المكان الجديد سيصادف كريس وزوجته مجتمعا للأجانب الهاربين أيضا من بلادهم باتجاه حياة جديدة. ربما يستولى فى النهاية، هذا الجيتو الأجنبي، ويأكل هذا المجتمع الصغير ويبتلعه مثل كثير من مجتمعات الأقلية التي سيطرت.
الزمن هناك يقاس، زراعيا، بمواقيت القمر ودوران الشمس وأعياد القديسين. فتقليم الكروم يخضع لأعياد القديسين، والتى تصاحبها ظواهر كونية مواتية، مثل اختفاء نوع معين من الذباب. وفي أوقات معينة من السنة أيضا يعبر أحدهم من أمام مزرعة كريس بقطعانه في موسم الجليد، تبعا لتحولات المناخ.
ثم يكتشف كريس أنه جاء لهذا المكان الجديد بنموذج لمكان قديم مدينى أكثر راحة "لم يعد ثمة عائق يصدنا الآن. فلدينا ماء حار، وسخان، وطباخ، وشارع، وسرعان ما وقعنا في عبودية كل الأشياء التي جئنا إلى الأندلس فرارا منها" ص 117.
كأن العالم توحد ليس فقط فى الخيال ولكن فى الجغرافيا. فنزوح صاحب المزرعة الذى باعها له باتجاه المدينة من أجل العيش في سكن به ماء جار وكهرباء، يكشف النزوح العكسي لهذا اللاجئ الإنساني، فهناك نقطة ثبتت عندها الحضارة، ولا رجعة عنها، سواء في الخيال أو على الواقع، وفرضت شروطا للعيش وللحلم، وأيضا للهرب منها.
ليس هناك مكان مختلف، قد يكون مختلفا أو بعيدا جغرافيا، ولكنه قريب فى أفكاره. ربما الطبيعة والثقافة الآن يتطابقان.
.............................................................................................
*قراءة لكتاب "السير على طرق مفروشة بالليمون". كريس ستيوارت. ترجمة فالح عبد الجبار- منشورات المجمع الثقافي - أبو ظبي- 2005.
ويحكي الكتاب رحلة كريس ستيوارت وزوجته آنا فى الهرب من حياة المدينة فى إنجلترا، واختيار وادي الفاليرو فى الأندلس ليعيشا ويزرعا وينجبا هناك.