أتذكر ونحن أطفال نلعب في الشارع في ستينات القرن الماضي وعندما كنا نختلف معا علي لعب الكرة كانت جملتنا الشهيرة »أيوه دي أرض الحكومة.. وأنا أبويا جمال عبد الناصر»..
نعم.. كان ناصر في هذا الزمن هو أبو كل المصريين وخاصة الفقراء منهم الذين كانوا لا يجدون أبا لهم سواه.
مازلت أذكر ذلك الخطاب المعلق علي حائط بيتنا ممهورا بتوقيع الزعيم خالد الذكر جمال عبد الناصر ردا علي رسالتنا إلي رئاسة الجمهورية حينما كنا نكتب إليه رسائلنا ونحن نعتقد أنه سيقرأها بنفسه ويرد علينا علي الفور. كتبت له يوما خطابا مثل الكثير من أطفال جيلي بدأته بقولي : »والدي الرئيس جمال.. سلامي إليكم والمنام حرام.. من فارق الأحباب كيف ينام.. سلامي إليكم والمنام قليل.. من فارق الأحباب عاش ذليل» وختمته بطلب صورة له.. وفوجئت بعد عدة أيام بخطاب من الرئاسة وبداخله صورة له وكلمات جميلة مازالت في خاطري.
هذا هو جمال.. الأب الحاني.. الوالد الذي يحب الخير لكل أبنائه.. هكذا عاش جمال عبد الناصر في وجدان المصريين.. لن ننساه فهو أول من »طبطب» علي أكتافهم بعد سنوات طويلة كان معظمهم لا يملك قوت يومه.. كانوا لا يملكون الأرض فملكهم أرضهم بقانون الإصلاح الزراعي الذي جعل الفلاح لأول مرة في حياته يتحول من خانة الأجير إلي مالك لها.. فقراء مصر تحديدا يفخرون بجمال الذي وقف في صفهم وساعدهم علي الحياة الكريمة وأعاد لهم كرامتهم بعد أن كانوا عبيدا لأسياد ذلك الزمان.
عبد الناصر صاحب مشروع العدالة الاجتماعية وصاحب مشروع السد العالي الذي أنار مصر من أقصاها إلي أقصاها والصناعات الثقيلة وقلاع الصناعة في المحلة وكفر الدوار وشبرا الخيمة.. رائد القومية العربية وحارسها الأمين الذي تحررت علي يديه بلدان كثيرة في عالمنا العربي والأفريقي والأسيوي.. كان ناصر ملهما لثورات التحرر العربي في كل مكان.. كان صادقا مع نفسه.. طاهر اليد والسريرة.. نصيرا للمظلومين.. هو الذي استبدل معاشه لكي يزوج ابنته الكبري ولم يمد يده لأموال الدولة والراحل الدكتور حسن عباس زكي شاهدا علي ذلك.. كان يستطيع لو أراد أن يأخذ ما يشاء لكنه أبي أن يفعل ذلك.
مات ناصر منذ 48 عاما ولم يزل موجودا بيننا.. كأنه مات بالأمس فقط.. ذهب للقاء ربه راضيا مرضيا وظللنا نحن نبكيه حتي اليوم.. فنحن الذين قتلناه كما قال نزار قباني: قتلناك يا حبنا وهوانا.. وكنت الصديق وكنت الصدوق.. وكنت أبانا.. وحين غسلنا يدينا اكتشفنا بأنا قتلنا منانا.. وأن دماءك فوق الوسادة دمانا.. لماذا قبلت المجئ إلينا فمثلك كان كثيرا علينا.. لماذا ظهرت بأرض النفاق.. فنحن شعوب من الجاهلية.. ونحن التقلب.. نحن التذبذب والباطنية.. نبايع أربابنا في الصباح.. ونأكلهم حين تأتي العشية. نزلت علينا كتابا جميلا.. ولكننا لا نجيد القراءة.. وسافرت فينا لأرض البراءة.. ولكننا ما قبلنا الرحيلا.. ستظل أبو خالد بيننا خالدا بما قدمت لهذا الوطن الذي عشقك وعشقته.. بلدنا وضع أقدامه من جديد علي طريق النهضة وسيمضي في خطواته وبنيانه يستعيد النقاء رغم أنف المتآمرين فالتاريخ يعيد نفسه والأعداء يعلمون لكنهم لن يفلحوا.