وقف على المنبر يُشيح بيديه، ويرفعُ عقيرته ناصبا المرفوع، ورافعا المنصوبَ والمجرور، مُؤنثا أو مُخنثا ما حقه التذكير، مُفردا ما حقه الجمع والعكس، غارقا في بحور الشعر جهلا بقواعد اللغة العربية من صرف ونحو وعروض، فقال لجمهور المُستمعين : عجبا لفتيات اليوم، تقولُ البنت لأبيها مُخادعة : أنا ذاهبةٌ إلى الدرس، وهى ذاهبةٌ إلى الحبيب، فيسرع بعضٌ ممن جلسوا أمامه يغطون في النوم قائلا : صلى الله عليه وسلم.. مشهدٌ هزلي يكشف حال خطباء اليوم ممن فقدوا أسس ومُقومات الخطبة الناجحة، وحال جمهور المُتلقين، الذين جعلوا من خطبة الجمعة فترة نوم واستجمام، وشرود ذهن في أحوال المال والعيال، والزوجة الناشز، ومدير العمل الثقيل وخلافه.
والمتأمل يجدُ أن وراء هذا المشهد الهزلي الكاشف لقصور الخطيب وانشغال المُستمعين عنه أمورا منها، تطويلُ الخطبة المُمل، وتكرار الجمل، والإسهاب في السرد الذي لا يعدو عن كونه (لتا وعجنا) رغم أن هذا مُخالفٌ لسنة النبي، التي حرصت على قِصر الخطبة وتطويل الصلاة؛ لأن الكلام يُنسى بعضُه بعضا، لهذا قيل إن خير الكلام ما قلَّ ودل.. وقليل يُدركه المرء خيرٌ من كثير يخرجُ به صاحبه ويُفتش في رأسه فلا يجد شيئا.
ومن عيوب الخطبة أيضا أن بعضا أو قُل كثيرا من خطباء اليوم نسى أنه قدوة يقتدي بها الناس، فتراه يدعو الناس إلى الخير والمحامد، ويأتي من الأفعال وينتهك من المحرمات ما تستحي منه العوام، ناسيا أنه بكونه خطيبا يقوم مقام الرسول، ويتكلم بلسان الشرع، فلابد أن يكون قدوة يوافق قولُه عمله لكيلا يصدق عليه قول الحق: كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون.
ومن عيوبها أن بعض الخطباء يكون في وادٍ وقواعد اللغة في واد آخر، فتأتي عباراته ركيكة ضعيفة فاقدة لمعناها، بعدما ألبسها ثوب الضعف والهوان، وطعن نحوها ووأد صرفها.
ومن عيوب الخطبة أيضا أن بعضا من الخطباء يدخلون في الموضوع جملة واحدة دون وضوح العناصر وتسلسل الأفكار، فيتوه المستمع مع الخطيب، وخلال الخطبة يفرح بما يسمع، وبعد انتهائها يفتشُ في ذهنه فلا يجدُ شيئا.
ومن عيوب خطبة اليوم عدم مُراعاة الكلام لمقتضى الحال، فالنابه من يعلم أن لكل حدثٍ حديث، ومُعايشة أحداث العصر من أهم أسباب نجاح الخطبة، وقبول ما يقوله الخطيب، فالحكمة ألا يضع الخطيب نفسه في برج عاجي بعيدا عن مشكلات المجتمع وأحداث العصر.
وأشد ما يعيب بعضا من خطباء اليوم اللحنُ في القرآن، وسوء الحفظ والخلط بين المتشابهات، وغيرها من عيوب القراءة التي تعتبر وصمة في جبين من يقترفها من ذوى العمائم، الذين من المفترض أنهم أفنوا زهرة عمرهم في حفظ القرآن وتدبر آياته .
فحرىٌ بخطيب اليوم أن يُشمر عن ساعد الجد، ويستمسك بمقومات الخطبة الناجحة التي لابد لصاحبها من علمٍ وفقه ودراية بالقرآن وعلومه ، وتوصيل ذلك للمستمع بتؤدة وأناة بعيدا عن الصوت الزاعق واللغة الركيكة، والحركات البهلوانية، التي تتنافى مع جلال المقام والمُتحدث.