الأهرام
د. سليمان عبد المنعم
حول تعديل قانون الإجراءات الجنائية (1-3) بإصلاح مرفق العدالة نبدأ
ثمة فارقٌ بين تعديل التشريعات وتطويرها. فالتعديلُ هو محض تغيير غير مؤثر أو مؤثر بشكل سلبى بينما التطويُر ظاهرةٌ إيجابية وتقدمية تغيّرٌ بعمقٍ وتعنى المضى قُدماً إلى الأمام. هذه تفرقةٌ يستدعيها النقاشُ الدائرُ حالياً حول مشروع قانون الإجراءات الجنائية المنظور حالياً أمام مجلس النواب والذى تتجلّى خصوصيته وأهميته فى ارتباطه بالدستور بأكثر من أى قانون آخر. يثير هذا التعديل ثلاثة تساؤلات نعالجها فى ثلاثة مقالاتٍ متتالية، أولها حول ما إذا كان التحديث التشريعى هو أولوية قضية العدالة فى مصر أم أن هذه الأولوية هى إصلاح مرفق العدالة ذاته باعتباره البنية الأساسية التى بسبب ضعفها يتواضع مردود أعظم التشريعات وأكثرها حداثةً. أما التساؤلان الثانى والثالث فيتعلقان بالجوانب الإيجابية والسلبية فى مشروع هذا القانون.

ثمة ملاحظة مبدئية حول نطاق التعديلات المطروحة.هل الأفضل إصدار قانون جديد للإجراءات الجنائية أم الاكتفاء بحزمة تعديلات محدودة؟ يبدو أن إصدار قانون جديد للإجراءات الجنائية كان يعكس فى البداية طموحاً للكثيرين داخل وخارج مجلس النواب، وهو طموح طيب ومطلوب، لكن اعتبارات واقعية عديدة رجّحت الاكتفاء بتعديل جزئي. وكانت النتيجة أنه لا هذا تحقّق ولا ذاك. فقد تمخض الأمر عن تعديل لا يمكن وصفه بأنه قانون جديد لأنه لم يأت بفلسفة جديدة ولا بروح ومبادئ مغايرة لما هو سائد، كما يصعب اعتباره فى الوقت ذاته تعديلاً محدوداً لأنه طال 286 مادة فى قانون الإجراءات الجنائية الحالى الذى يضم بين دفتيه 560 مادة. هذا يعنى أننا أمام تعديل يتجاوز 50% من مواد القانون الحالى لكنه لا يمس روح القانون ولا يغيّر من فلسفته، ولا يعالج إشكالياته الحقيقية التى كشف عنها واقع التطبيق القضائى منذ تاريخ صدوره فى 1950. كان رأيى دائماً أنه إذا لم نكن مستعدين لقانون جديد يلبى التطلعات ويعكس روحاً تقدمية جديدة فالأفضل هو الاكتفاء بأقل قدر ضرورى من التعديلات انتظاراً لفرصةٍ مواتيةٍ أخرى يتوافر فيها مناخ التطوير الشامل والعميق بما ينتج تنظيماً قانونياً خلاقاً لإشكالية الأمن والحرية، وبما يليق بدولة التراث القانونى الأقدم والأعمق فى منطقتها وقارتها.

بالطبع ثمة إيجابيات وسلبيات فى التعديلات التشريعية المطروحة مع ملاحظة أن السلبيات لا تكون بالإضافة فقط ولكن بالترك أيضا، بمعنى أن الإصلاحات المسكوت عنها تعُد من قبيل السلبيات. وبرغم ذلك وقبل الدخول فى التفاصيل فالحقيقة أن تحديث النصوص لا يُغنى عن إصلاح مرفق العدالة. فالنصوص والتعديلات الجديدة برغم أهميتها والحاجة إليها ستبقى متواضعة الآثار والنتائج ما لم تقترن بحركة إصلاح واقعى على الأرض تشمل كل عناصر ومقوّمات مرفق العدالة نفسه. هذا ما يكفل تحقيق «العدالة الناجزة» بوصفها غاية أى تشريع جنائى إجرائي. وكمثال لذلك فإن استحداث نظام الطعن بالاستئناف فى مواد الجنايات، وهو مطلب قديم يفرضه مبدأ التقاضى على درجتين كأحد ضمانات المحاكمة المنصفة، والعبء الجديد المتوقع على محكمة النقض بعد تعديل القانون الخاص بحالات وإجراءات الطعن أمامها، كل هذا يتطلب زيادة أعداد القضاة وتوفير الأبنية وقاعات المحاكم فى ظل ما أعلنه نائب رئيس هيئة قضايا الدولة منذ شهور بأن هناك 27 مليون قضية مدرجة على سجلات العدالة. إن مصر تكاد تكون الدولة الوحيدة فى العالم- فيما نعرف التى يتجاوز فيها عدد قضايا الجنح المسجلة على «رول» المحكمة خمسمائة قضية، وما يناهز العشرين أو الثلاثين قضية جناية فى الجلسة الواحدة. يلقى مثل هذا التكدس عبئاً ثقيلاً ومرهقاً على القضاة ربما يتعاملون معه بمثابرة الاعتياد وعبقرية التمرس لكن الظاهرة بذاتها ليست أمراً إيجابياً. يتطلب الإصلاح المرفقى أيضاً إحداث طفرة فى أعداد القضاة، وهذا بدوره يحتاج إلى موارد مالية إضافية فى الموازنة العامة إذ لا يزيد عدد المعينين سنوياً فى النيابة العامة على خمسمائة شاب هم الذين سيصبحون بعد عدة سنوات قوام الجهاز القضائى فى الدولة فى المحاكم الجنائية والمدنية. لا يكتمل إصلاح مرفق العدالة بدون رفع كفاءة الجهازالإدارى المعاون للقضاة وإدخال نظم الميكنة والإجراءات الالكترونية الحديثة، وهذا جانب يعانى منه بشدة جهازنا القضائى لا سيّما حين نقارنه بأوضاع دول أخرى مثل دول الخليج. غير معقول ولا مقبول أن التحقيقات ومحاضر الجلسات والكثير من الأوراق القضائية الأخرى ما زالت تُكتب بخط يدوى بدائى عسير وغير مقروء، وهذه مسألة أخرى تعود بنا إلى نظام التعليم حيث ما زال خريجو المدارس الثانوية العامة والتجارية لا يجيدون الكتابة على أجهزة الكومبيوتر بالسرعة الاحترافية المطلوبة كما نرى فى قاعات المحاكم الأجنبية. كل هذه أمور تتعلق بالاختيار السليم والتدريب المستمر لجهاز إدارى كفء معاون للقضاة وفقاً لمعايير الجدارة وبعيداً عن الوساطة والمحسوبية فى التوظيف الحكومي. لم يعد ثمة حل أيضاً لمواجهة تكدس القضايا وطول أمد التقاضى وتعقيد الإجراءات سوى الأخذ بنظام التقاضى الإلكتروني، ونحن صائرون إليه لا محالة طال الزمن أم قصر فلماذا لا نبدأ به اليوم لا سيّما وهو حل يتسم بالنجاعة، وقلة التكلفة، وسهولة التطبيق، وهى السمات الثلاث التى تجعل منه ضرورةً لا خياراً نملك بديلاً عنه. بوسع كل المحامين اليوم وأكثرية المصريين بمن فيهم الريفيون ومتوسطو الحال والتعليم استخدام وسائل التواصل الإلكترونى الكفيلة ليس فقط بتوفير الوقت وتسريع الإجراءات والقضاء على الزحام أمام المحاكم وداخل أروقتها ولكن أيضاً القضاء على التسيب والفوضى وربما الفساد داخل الجهاز الإدارى المعاون للقضاة. ولعلّ أهم ما استحدثته التعديلات المقترحة أنها أفردت فصلاً سادساً بعنوان «فى إجراءات التحقيق والمحاكمة عن بعد» فى المواد 569 إلى 575 من مشروع القانون الذى أدرج أيضاً وللمرة الأولى نظام إعلان الأوراق القضائية إلى الخصوم بالطريق الإلكتروني. هذا التحديث التشريعى المحمود يصب فى إصلاح مرفق العدالة من خلال مباشرة إجراءات التحقيق والمحاكمة بالتواصل الإلكترونى المسموع والمرئى مع المتهمين أوالشهود أو المجنى عليهم أو الخبراء أو غيرهم، وكذلك بالنسبة للإجراءات المتعلقة بالحبس الاحتياطي، ويتم تسجيل وحفظ كل هذه الإجراءات التى تتم بالتواصل الإلكترونى عبر تطبيقات الواتس آب أو سكايب أو الفيس تايم وتفريغها فى محاضر بعد التوقيع عليها. لكن هذا التحديث التشريعى المطلوب ما زال يحتاج فى تفعيله وتعميمه على أرض الواقع إلى توفير منظومة كاملة من اللوجستيات، وهو ما يُعيدنا مرة أخرى إلى نقطة البدء وهى أن نجاح أى تحديث تشريعى يتوقف ابتداء على إصلاح مرفق العدالة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف