الوطن
د. محمود خليل
إحياء «ميت»
لدى الكثير من المصريين غرام ظاهر بالتاريخ، أو على وجه التحديد بحقب محدّدة من التاريخ، يحلم بعضهم باستعادتها فى الحاضر وتفعيلها فى الواقع الجديد الذى نحياه. تجد قطاعاً لديه غرام بحقب من التاريخ الإسلامى يغلبه على الحلم بالعودة إليها الحنينُ إلى العدل والرحمة والسطوة على الآخرين، وقطاعاً آخر يحلم بالعودة إلى العصر الملكى وزمان «الوفد»، تسوقه إلى ذلك الرغبة فى إحياء قيم الليبرالية والتعدّدية، وقطاعاً ثالثاً يجد حلمه فى مصر الستينات، مصر «عبدالناصر»، مغلوباً بشوقه إلى العدالة الاجتماعية، وحماية الفقراء، وأفكار القومية العربية والدولة القوية القائدة التى تشكل قاطرة لعالميها العربى والأفريقى.

الحالمون بالعودة إلى هذه الحقب يركزون فى نظرتهم إلى حلقات التاريخ، على أشخاص بعينهم، فتجدهم يتحلّقون حول فكرة العدل العمرى، أو قوة «ناصر» وولائه للفقراء، أو وطنية سعد زغلول، أو ليبرالية النحاس باشا، وغير ذلك. وواقع الحال أن الأصل فى التاريخ هو الظرف وليس الشخص. فالظرف هو الذى يُملى على الشخص نمطاً معيناً من الأداء. فلو حكم عمر بن الخطاب فى أيام عثمان لأدى كما أدّى عثمان، ولو استُخلف عثمان بعد أبى بكر لحكم بالطريقة التى حكم بها عمر. كذلك الحال بالنسبة لفترات وحلقات تاريخنا الحديث. فلو جلس جمال عبدالناصر على كرسى «النحاس» -قبل ثورة يوليو- لأدى كما أدى النحاس، ولو شاءت الأقدار وحكم أنور السادات فى الستينات، لسلك مسلك جمال عبدالناصر. الظرف هو الذى يحكم وليس الشخص. وجانب الكفاءة فى الحاكم يتجلى فى مستوى وعيه بمعطيات الظرف الذى يحكم فى سياقه وقدرته على التناغم معها. فى هذه المساحة على وجه التحديد تظهر عبقرية الأفراد. فمن يستوعب ظروف عصره ويعرف كيف يدير تبعاً لما تمتاز به من سمات وخصائص ينجح، ومن يتعاكس معها تعاكسه وتعرقله، وتكون النتيجة عدم التوفيق فى تحقيق الأهداف.

والناظر إلى الظرف المعاصر الذى نعيش فى ظلاله يجده متميزاً بمجموعة من السمات الأساسية، من بينها: وجود المعلومات عند أطراف أصابع الفرد، وصعود أدوار الشباب، فى مقابل تراجع السلطة الأبوية، وازدياد قوة وقدرة الفرد، وكذا قدرة وقوة التجمعات والمجموعات -مهما صغر حجمها- التى يضمّها فكر أو توجّه واحد، حتى لو كان توجهاً مهنياً، مقابل ضعف سلطة الدولة، وسقوط فكرة «قداسة التاريخ» بعد أن أصبح كل حدث أو فكرة ارتبطت به قابلة للنقد والمراجعة. هذه التحولات وغيرها تجعل من محاولة استدعاء فترة معينة من التاريخ -بما امتازت به من ملامح- وفرضها على الواقع، نوعاً من السباحة ضد التيار، أو تبدو وكأنها محاولة لـ«إحياء ميت». فى الستينات على سبيل المثال، كان الحكم فرداً، والسياسة «الاتحاد الاشتراكى»، والإعلام أحادى الاتجاه وأقرب إلى الدعاية منه إلى المهنة، والاقتصاد قطاعاً عاماً، والغناء «أم كلثوم» و«عبدالحليم»، والحب رومانسية وتضحية. والسؤال: هل السمات التى تميّزت بها هذه المرحلة يمكن استعادتها فى زمن «التواصل الاجتماعى» و«الموبايل» و«التعليم الخاص» و«العولمة» و«سقوط فكرة سيطرة الكبير على الصغير»؟.. «أرنى كيف تحيى الموتى»!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف