فى سنة خمس وسبعين ومائة هجرية عقد الخليفة العباسى الرشيد لابنه محمد ابن زبيدة بولاية العهد، ولقبه الأمين، وأخذ له البيعة وعمره خمس سنين، وعهد بالأمر من بعده إلى أخيه «المأمون». وقد كان للأمين أحوال عجيبة، يذكر ابن الأثير أنه أول ما تولى ظهر لديه ميل إلى الخصيان، واستغنى بهم عن الحرائر والإماء من النساء، يقول صاحب «الكامل فى التاريخ»: «لما ملك الأمين وكاتَبَه المأمون، وأعطاه بيعته، طلب الخصيان وأباعهم وغالى فيهم، فصيرهم لخلوته ليله ونهاره، وقوام طعامه وشرابه، وأمره ونهيه، وفرض لهم فرضاً سماهم الجرادية». الواضح أن الأمين لم يكن طبيعياً، فزهد الرجل فى النساء وتقريبه الخصيان والغلمان دليل لا يخَطَّأ على شذوذ أطواره. ويقال إن الأمين كان لديه غلام اسمه «كوثر» شديد القرب منه، وكان الأول يحب الثانى محبة شديدة، وينسى معه كل خطوب الدنيا، مهما كان خطرها.
ولعل أكبر خطر واجه الأمين هو الفتنة التى وقعت بينه وبين أخيه وولى عهده المأمون، تلك الفتنة التى بدأها الأمين عندما قرر أن يعهد بالأمر من بعده إلى ولده «موسى». ففى سنة أربع وتسعين ومائة أمر الأمين بالدعاء لابنه موسى بولاية العهد بعد أخيه المأمون، وتدخلت حاشيته بعد ذلك لتقنعه بأن يسبق «موسى» أخاه «المأمون»، ولقى الأمر هوى فى نفسه فأرسل إلى أخيه - كما يقرر الذهبى صاحب كتاب سير أعلام النبلاء - «يطلب منه تقديم موسى ولده عليه، ولقبه الناطق بالحق، فأبى ذلك المأمون، ولما بلغ الأمين ذلك أسقط المأمون من الدعاء، وطلب ما كتبه الرشيد وعلقه بالكعبة من العهد بين الأخوين، فمزقه، فلامه الألباء فلم ينتصح، حتى قال له خازم بن خزيمة: لن ينصحك من كذبك ولن يغشك من صدقك، لا تجسر القواد على الخلع، فيخلعوك، ولا تحملهم على النكث، فالغادر مفلول، والناكث مخذول، فلم يلتفت، وبايع لموسى بالعهد، واستوزر له، فلما عرف المأمون، خلع أخاه».
كلا الأخوين خلع الآخر، لكن المأمون هو الذى فاز فى النهاية، لم يكن الأمر متعلقاً بتفوق فى الذكاء أو الكيد أو الحيلة تميز به المأمون، بل كانت الفروق بين المتنافسين ببساطة فروقاً بين رجلين أحدهما تشبع بملذات الدنيا حتى بدأ يبحث عن جديد حتى ولو أدى به إلى الشذوذ، وثانيهما يضع الحكم نصب عينيه ولا يفكر إلا فى عرش الخلافة. نشبت حرب ضروس بين الأمين والمأمون جرّد فيها الأول إلى الثانى ثلاثة جيوش، وفى كل مرة كان جيش المأمون ينتصر. وفى الختام تمكن جيش المأمون بقيادة «طاهر» من دخول بغداد.
يقرر أغلب كتاب التراث أن الأمين كان يرسل جيشاً لمواجهة جيش المأمون ثم يخلو بعد ذلك إلى اللهو واللعب. ويحكى «ابن الأثير» فى هذا السياق حكاية طريفة يقول فيها إن الأمين جاءه يوماً نعى أحد قادة جيوشه التى تواجه «المأمون» وهو يصطاد السمك، فقال للذى أخبره: ويلك دعنى، فإن كوثراً قد اصطاد سمكتين، وأنا ما صدت شيئاً بعد. لقد ألهاه فتاه كوثر عن كل شىء، بما فى ذلك مُلكه وعرشه. ولا خلاف على أن قيادة بهذا التكوين يستطيع أى شخص يدخل فى مواجهتها أن يظفر بها ويزيل ملكها. ولم يدفع الأمين مُلكه فقط كثمن لعشقه لـ«كوثر»، بل دفع حياته كلها ثمناً لذلك، إلى حد يصح معه القول بأن الأمين «قتيل فتاه كوثر».