مصطلح «المعلوم» مصطلح مملوكى بامتياز، فقد نشأ فى أحشاء الحياة المملوكية، وكان جزءاً لا يتجزأ منها. والمعلوم هو مبلغ محدد كان يتم دفعه لقضاء الحاجات. فمن يريد إنفاذ أى مصلحة عليه أن يدفع «المعلوم». أفاض الكاتب الراحل صلاح عيسى فى تبيين وشرح تلك الآفة التى ضربت شتى جوانب الحياة فى المجتمع المصرى فى العهد المملوكى فى كتابه «حكايات من دفتر الوطن». يقول «عيسى»: «ولأن العصر كان يحفل بتقاليد غريبة، فقد كان عرفاً رسمياً ألا يتولى أحد منصباً من مناصب الدولة إلا إذا دفع رشوة للسلطان، كانت تعرف بـ«المعلوم» فالمناصب تخضع للمزاد العلنى، ومن يدفع المعلوم الأكثر يتولاها وكان منطقياً وتقليدياً أن يسعى كل واحد من القضاة الأربعة - يقصد قضاة المذاهب السنية الأربعة- لأن يسترد ما دفعه من معلوم بالربح المركب من النواب الذين يعينهم، ويسترد هؤلاء ما دفعوه من معلوم وبالربح المركب من أيضاً من المتقاضين من أبناء الشعب المسكين».
دائرة «المعلوم» واحدة من الدوائر الجهنمية التى ورثها المصريون المعاصرون عن المجتمع المملوكى. فكل شىء يسير بالمعلوم، والأصل فى ذلك هو الحكومة التى تدير. على سبيل المثال تسمح الحكومة لرجل أعمال أو مستورد باحتكار سلعة معينة نظير «معلوم» يدفعه، وبعد الاستيراد يكون هم المحتكر جمع ما دفعه مشفوعاً بالربح المركب من تجار الجملة، ليدفع لهم تجار التجزئة بعد ذلك المعلوم بالربح المركب، ثم يحلب تجار التجزئة «المعلوم» من أبناء الشعب المسكين مدموغاً بالربح المركب أيضاً. هذا مثال من مجموعة أمثلة عديدة لمعاناة المواطن، تجد أصلها عند الحكومة، وتلقى تفسيرها فى تلك النظرية التى ورثناها عن العصر المملوكى، نظرية «المعلوم»!، أو بالمصطلح المصرى المعاصر «شخلل عشان تعدى». فكل ما فى جيب المواطن أصبح حلالاً بلالاً لا بد أن يدفعه حتى يقضى مصالحه أو يحصل على احتياجاته.
«ادفع المعلوم» واحدة من العبارات التى تحتفظ بها الذاكرة المصرية منذ ما يزيد على خمسة قرون من الزمان، وهى مسألة ترتبط بالأساس بعجز الحكومات عن استغلال استثمار ثروات البلاد بالصورة المثلى لتكون مصدرهم الرئيسى فى توفير المال، فلا يجدون أمامهم سوى «المواطن»، فيرون لأنفسهم حقاً معلوماً فيما يمتلكه من قروش، ويصبح جيبه وجهتهم. اللعبة تبدأ من عند الحكومة ثم تنتقل إلى الوسطاء بين المواطن والحكومة، ومنهم إلى المواطنين أنفسهم الذين لا يتأخرون أيضاً عن جمع «المعلوم» من بعضهم البعض. هذا يأخذ من جيب ذاك، وذلك يستولى على ما فى جيب هؤلاء، وهكذا تتواصل حلقات السلسلة الجهنمية حتى يتحول الجميع إلى «جباة».
انتهى عصر المماليك -كما تعلم- بخراب دولتهم، حين اجتاح السلطان سليم الأول أرض الشام ومصر التى يسيطرون عليها ومات آخر سلاطينهم «قنصوه الغورى» تحت سنابك خيل «العثمانلية». دولة المماليك خرجت من الحكم رسمياً عام 1517، لكن فلولها تمكنوا من لملمة أنفسهم ليصبحوا من جديد جزءاً من دولاب الدولة، ويسيطروا على مفاصلها، ويواصلوا رسالتهم المقدسة فى نشر ثقافة «دفع المعلوم».