الأهرام
يسرى عبد الله
التنوير وصناعة الأفكار
هل يمكن أن ينمو التنوير في ظل سياقات فكرية واجتماعية قرون وسطية؟ هذا السؤال ربما يصلح مدخلا مناسبا لوعي أعمق بالتنوير. إن الإيقاع المنتظم لمفردة الرعب التي ترد في نهايات رواية «قلب الظلام» للروائي الفذ جوزيف كونراد، لم تزل يتردد صداها، لكن ربما يكون الرعب الحقيقي في عجز الأفراد عن التفكير بأنفسهم، في تنامي فكرة الاستنامة داخلهم، وارتمائهم في حضن التصورات الجاهزة، ومن هنا أيضا تصبح صيحة «كانط» دالة للغاية:»اعملوا عقولكم أيها البشر! لتكن لكم الجرأة على استخدام عقولكم»، فالتوظيف المستمر للعقل في رؤية العالم، والاستخدام للوعي النقدي بمثابة حجر الزاوية في أي مجتمع يفكر، حيث تفقد المجتمعات البشرية بوصلتها حين يفكر الآخرون لها، ويصبح إهمال العقل بديلا عن استخدامه، وحينئذ فإنها تسلم نفسها وبإرادتها الكاملة إلى مكانها الأثير خارج التاريخ. وكثيرا ما يهمل المجموع عقله، منتظرا الحقيقة وهي تلقى في حجره، وساعتها يقع في قلب الوهم، وتصبح سلبيته عين الكارثة.

لقد بدا الفهم الكلاسيكي للتنوير في عالمنا العربي قيدا على التنوير ذاته، وإقصاء مبطنا للعقل النقدي، ولتصورات ما بعد الحداثة التي لم تعد تشير إلى نخب وجماهير، قدر ما تشير إلى جدل منتج للأفكار، التي تتجاور ولا تتصارع، وربما احتاج التنوير في عالمنا العربي الآن إلى آليات جديدة للغاية تنقذه من خطل استدعاء الماضي دائما، فالوعي الطليعي الذي يحتفي بالجليل والخلاق دوما، يجب أن يكون دافعا لسعي جديد صوب الخروج من الكهف السرمدي الذي تتحالف قوى الاستعمار الجديد مع قوى الرجعية والتخلف في عالمنا العربي لإبقائنا المستمر فيه، وفي المناخات المعتمة تصبح صناعة الأفكار جوهرا للتنوير، فالدفاع عن العقلانية شاغل التنوير الأول وهاجسه الرئيسي، يقتضي فهما جديدا، وآليات أكثر حداثة في التعاطي مع اللحظة الراهنة. ولعل أول آلية من آليات التنوير تتصل اتصالا وثيقا بصناعة الأفكار، بهذه القدرة الفريدة على طرح خطابات جديدة، وإنتاج تصورات معرفية مغايرة للسائد والمألوف، ويرتبط بهذا قدرة المناخ العام على التلقي الإيجابي للأفكار الملهمة لواقعها، فلا معاداة مجانية للمشاعر العامة لناسنا وأهلنا، ولا امتثال وخضوع للتحولات المخزية التي شهدها العقل العام في السنوات الأربعين الأخيرة التي شهدت زخما هائلا من التحالف المشبوه بين الفساد والرجعية، وهي الصيغة الآمنة لكل تصور هجين تختلط فيه الميتافيزيقا بالفهلوة بالمعرفة المبتورة. أما الآلية الثانية من آليات التنوير فتتمثل في امتلاك النسق المعرفي، الذي يعرف جيدا أين يقف، فالصيغ التلفيقية أثبتت عوارها الشديد، والجمع بين المتناقضات أصبح أمرا يدعو للرثاء أكثر منه إلى السخرية، وخلط الديني بالدنيوي، والمطلق بالنسبي، والأبدي بالعابر، جزء أصيل في الإشكالية الراهنة. إن هذين البعدين النظريين يتطلبان سياقات داعمة لحريات التعبير والتفكير النقدي والبحث العلمي، لكنهما في الحقيقة يحتاجان أيضا إلى آليات إجرائية تصل بالتنظير إلى محله الدقيق في مقدمة الفعل التنويري في مجتمعاتنا.

وتتعدد الآليات الإجرائية التي تؤسس لخطاب التنوير والتي تحمله أيضا، فالمؤسستان التعليمية والثقافية يجب أن تؤسسا لخطاب التنوير، مثلما على المؤسسة الإعلامية أن تحمل هذا الخطاب وتدرك مراده في الدفاع عن قيم العقل، والإبداع، لا التكريس لقيم النقل والاتباع. كما يجب أن تضيق الفجوة بين المؤسستين التعليمية والثقافية، وأن يؤدي كل منهما دوره بتجرد ووعي ونزاهة، ولكي يحدث ذلك لا بد من تفعيل آليات المساءلة، والمراجعة لكل شيء، فالتعليم لدينا يجب أن يطمح إلى بناء الشخصية المتكاملة التي تدرك قيم التنوع، وتعرف معنى التفكير العلمي، والثقافة يجب أن تتخلص مؤسساتها الرسمية من حالة الكسل العقلي التي تعانيها، وتصبح حجر زاوية في البناء الجديد للدولة المصرية ليس من خلال ثقافة الكرنفال، ولكن من خلال الفعل الثقافي الجاد والمستنير والحقيقي.

وبعد.. إن الرعب الجديد ليس من بون شاسع يجتاح العالم ما بين عالم متحضر وآخر همجي، بحسب آليات الاستعمار القديم، لكنه رعب من نوع آخر، من سقوط المعنى، واندثار القيم الحرة الدافعة للتأمل والتساؤل والنظر الخلاق للعالم، فيصبح التنوير حاجة أكثر منه رغبة، واجبا وليس زخرفا، فمن خلال قيم العقل يمكننا إيقاف قيم التوحش التي تجتاح العالم، والتي يحملها المتطرفون والإرهابيون الذين يقدمون من حواشي التراث والماضي، غير عابئين سوى بالقضاء على ما تبقى لدينا من إنسانية، تاركين في نفوس المتعاطفين خفية أو علنا معهم من أبناء التلفيق بين الماضي والحاضر مساحات أوسع للإجهاز على التراكم الحضاري النبيل لأمة عظيمة لم تزل قادرة على إنتاج الجمال والأفكار والمحبة أيضا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف