التحرير
أحمد خير الدين
قُيدت ضد مجهول!
في مصر الآن مناخ يستدعي الكثير من الجمل الاعتراضية، والاستطرادات والعلامات التفسيرية التي يحاول بها كل متحدث ضمان ألا تجلب عليه كلمته وبالًا أو مصيرًا يدفعه لندم فات أوانه، ربما هذا هو التفسير حسن النية لمحاولة البعض تقسيم المسئولية عن موت السياسة بين السلطة والأحزاب والقوى السياسية.

فالتفسير الآخر أن هذا تدليس يحاول به أصحابه فعل ما تسميه تحقيقات الجرائم "شيوع الاتهام"، لتضيع المسئولية عن الفعل وتقيد الجريمة ضد مجهول.
والحديث هنا ليس محاولة لتبرئة الأحزاب والقوى السياسية من ارتكاب أخطاء، أو جعل المنتمين إليها ملائكة، لكنه كذلك محاولة لوضع الأمر في حجمه، واسترجاع بعض ملامح ما جرى، فلا يمكن أن تكون مسئولية من في مقاعد الحكم كمسئولية معارضيهم أو من حاولوا ممارسة العمل العام في هذه الأجواء.

قبل شهر جرت انتخابات اتحاد الطلاب في جامعات مصر، وبدت حينها إعلانًا أخيرًا لموت أي تفكير في السماح بمنفذ أو متنفس في هذا البلد، وتجريبًا على قاعدة أصغر لما نراه الآن في انتخابات الرئاسة. لذا يبدو الاندهاش من المآل عجيب ومدهش هو أيضًا. حين صار الحديث في العلن الآن: أيها أكثر إحراجًا لمصر أمام العالم.. خوض انتخابات بلا منافسين أم بمنافس واحد نصنعه في العلن أيضًا؟ ولماذا وضعتنا المعارضة في هذا المأزق؟
لمن يسأل الأحزاب أين كانت طوال هذه السنوات، نسأله هو أين كان حين صار من العادي أن يعاقب شخص على كتابة رأي على مواقع التواصل الاجتماعي، أو حين ينتفض المجلس الأعلى للصحافة ليطلب التحقيق مع أكاديمي بارز لأنه تجرأ وطرح أسئلة عن الاستعدادات الأمنية للإرهاب، أو حين صارت الجامعات رهينة شركات الأمن ومعادية للسياسة؟
لسنوات صار تفخيخ الأحزاب فعلا يتم بلا خجل أو محاولة للإتقان، وهو تصرف لا يبدو عدم اكتراث برأي المشاهدين في المستوى، بقدر ما هو إمعان في إثبات ألا خطوط حمراء وطمأنينة، لأن أحدا لن يسأل أو يرد، بل إن الترحم على رموز السلطة البائدة أصبح الفعل الأكثر منطقية.
لسنوات يكتب الأستاذ عبد الله السناوي في مقاله الأسبوعي بهدوء مرة وبنفاد صبر مرة أخرى نداءات لفتح المجال العام، وتحذيرات من أن قتل السياسة قتل لمستقبل هذا الوطن، فتأتيه الإجابات بهجوم رخيص على صدر الصفحة الأولى من صحيفة قومية، يتلقى المختارون لرئاسة تحريرها أموالهم من جيوبنا نحن لا من جيوب من اختاروهم مكافأة للتملق والإبداع في الصحافة الفضائحية ونقل أداء اللجان الإلكترونية إلى الإعلام.

لا نعلم أين كان السائلون الآن حين تحولت الوطنية إلى "الاصطفاف"، وكتمت أي علامة استفهام أو حديث عابر ليبقى الاختيار بين الدولة أو الإرهاب؟ وامتد العقاب لمن يبحث عن طريق ثالث إلى المحاصرة في قوت وأموال المعارضين، كما جرى لرئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي الذي تحول استهداف مكتبته ومطبعته إلى نشاط أسبوعي.
هل يعلم السائلون ما قاساه الأهالي والأصدقاء ليفتدوا المحبوسين بتهمة التظاهر اعتراضًا على اتفاقية ترسيم الحدود؟ وما عاشوه أمام أقسام الشرطة والمحاكم، وما سيبقى في نفس هؤلاء طوال عمرهم؟ هل فكروا في ذلك حين تخرج علينا ألسنتهم أسئلة وتعجب من عدم إقدام المعارضة على ممارسة دورها خوفًا من دفع الثمن؟!

ربما الإجابات القاطعة عن هذه الأسئلة شاخصة الآن في الزنزانات التي يسكنها الآن إسلام مرعي وأندرو ناصف وجمال عبد الحكيم وآخرون غيرهم بتهم تأليب الرأي العام والإرهاب ومحاولة قلب نظام الحكم.
الآن أين السياسة؟ بعد أن رأوا بأعينهم كيف كانت حيوات الناس الخاصة وتسجيلاتهم والتشكيك في سمعتهم مادة خاصة برنامج على الهواء مباشرة، استخدم لينتقم من كل من فكر أن يخوض السياسة، والخوض هنا يناسب المستنقع الذي وجدوا أنفسهم واقفين فيه.

يذهب الواحد منهم إلى المطار واضعًا يده على قلبه خشية أن يمنعه الأمن من السفر ويدمر خططه، يتساوى في ذلك كاتب بحجم علاء الأسواني، مع حقوقي هو عضو في المجلس القومي لحقوق الإنسان مع أي ناشط ولو تقاعد وتوقف عن فعل أي شيء.
تكتب مقالًا فيهمس صديقك أن تخفف حدته كي لا تثير غضب ضابط لا يجد ما يفعله، تقرأ الآراء التي تستاء من إصرار الشباب على إدخال السياسة إلى الجامعات وملاعب الكرة، لكنك تجد مؤتمرًا داخل اتحاد الكرة وبيانًا من مترو الأنفاق لدعم الرئيس منشورًا كخبر عادي وطبيعي ولا يثير أي انزعاج.
يتحول مجلس النواب إلى نسخة من مسرح مصر، ولكن بقوانين وتشريعات استحقت مكانة مميزة في موسوعة جينيس عن أسرع مناقشات وأجمل اقتراحات، لكن أي حديث عن تلك الممارسات داخله قد يعرضك إلى الملاحقة أو البلاغات، يهجر الناس إعلام بلادهم إلى أي وسيلة أخرى، وتنشط الصفحات وتجد الشائعات أرضًا خصبة ومثالية، ويتحول السؤال بعد كل حلقة مفاجئة أو رأي مخالف لقواعد الاصطفاف إلى: هل هذا صراع الأجهزة وإلى أي جهة ينتمى هذا المتحدث؟
تقول الجدات في بلادنا: "العايط في الفايت نقصان عقل"، لكن هذا لا ينطبق على بحث أسباب ما وصل بنا إلى هنا، خاصة حين يبدو السائل كأنه كان ينتظر نتيجة أخرى لكل ما عشناه طوال هذه السنوات، وحين ينتقد المعارضة لإحجامها عن دفع ثمن المخاطرة والتضحية بالنفس، كأنها تواجه أمرًا محتومًا لا جريمة تستدعى إدانة مرتكبيها أولًا.


































































































تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف